أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

الناقد فاروق يوسف..(وداد الأورفلي تطل على بغداد من شرفة أندلسية)

الناقد فاروق يوسف..(وداد الأورفلي تطل على بغداد من شرفة أندلسية)
 








وداد الأورفلي تطل على بغداد من شرفة أندلسية

الكاتبة والتشكيلية وداد الأورفلي تدخل التاريخ الثقافي المعاصر في العراق، بمثال امرأة ترسم كل أزمنة العراقيين.

حين أقامت وداد الأورفلي عام 1983 قاعتها للعروض الفنية والتي حملت اسمها العائلي في حي المنصور الذي كان سكنا للنخب الأرستقراطية البغدادية كانت قد تجاوزت الخمسين سنة من عمرها، قضت الجزء الأكبر منه وهي تتنقل بين عواصم دول شرقية وغربية برفقة زوجها حميد عباس العزاوي الذي كان يعمل في السلك الدبلوماسي.

سيدة المكان وخالقة طقوسه

يومها كانت وداد قد دخلت التاريخ الثقافي المعاصر في العراق من جهة كونها المرأة العراقية الأولى التي تقيم قاعة للعروض الفنية. وهو ما سيوفر لها مكانة خاصة في الوسط الثقافي، حيث صار الحضور الدوري إلى تلك القاعة طقسا تبناه الكثير من المثقفين، لا من أجل حضور حفلات افتتاح المعارض التي كانت متميزة ورفيعة المستوى دائما، فحسب بل وأيضا للتمتع بما كانت القاعة ترعاه تلقائيا من لقاءات بين مبدعين في مختلف فروع الثقافة.

كانت سيدة المكان بكل ما تملك من أريحية واسترخاء تضفي على تلك اللقاءات الشيء الكثير من نزعتها الثقافية الشمولية العابرة للحدود بين الأنواع الفنية، فكنت ترى الرسام والمعمار والموسيقي والشاعر والمفكر والمغني والروائي والنحات وقد اجتمعوا معا في خلية، كانت وداد نفسها تدير شؤونها برقة أحاسيسها.

لقد شكلت قاعة الأورفلي نقطة تحول في الحياة الثقافية العراقية، وبالأخص في مجال حرصها على مستوى عروضها الفنية، حيث كان كل عرض من تلك العروض بمثابة حدث مهم، يؤرخ لقفزة نوعية في مسيرة الفن التشكيلي المعاصر في بلد، كان يومها مسرفا في عطائه الثقافي. وقد يكون مناسبا هنا أن أشير إلى الدور العظيم الذي لعبته قاعة الأورفلي في تحرير الفنانين من وصاية المؤسسة الفنية الرسمية.

فبعد أن كان الفنان العراقي مقيدا بشروط العرض في القاعات الرسمية التي كان بعض منها سياسيا وجد في قاعة الأورفلي الفضاء الذي ينفتح من خلاله على حريته واستقلاله في قاعة عرض مترفة لا تفرض عليه شروطا مسبقة إلا في ما يتعلق بالمستوى الفني الرفيع.

الرسامة بأناقة حضورها

غير أن صاحبة القاعة لم تطغ على الرسامة في شخصية وداد الأورفلي. فالأورفلي المولودة في بغداد عام 1929 كانت قد درست الرسم مرتين: مرة حين كانت طالبة في كلية الملكة عالية وكان معلمها الرسام العراقي الشهير خالد الجادر ومرة أخرى حين انتسبت إلى القسم المسائي في معهد الفنون الجميلة حيث تخرجت منه عام 1960. لهذا يمكننا القول إن تجارب الأورفلي في الرسم تعود إلى مرحلة كانت قد شهدت نضوج فكر وأساليب الحداثة الفنية الأولى في العراق. وهو ما يجعل البحث عن تفسير للقطيعة التي عاشتها الفنانة مع تحولات الفن في تلك المرحلة مبررا.

في سيرة وداد الأورفلي نجد ما يفسر وقوع تلك القطيعة. فالمرأة التي رافقت زوجها في تنقله بين بون ونيويورك وعمان ومدريد والخرطوم وتونس ولندن لم تعش حياة مستقرة تجعلها قادرة على الاطلاع على تجارب الفنانين العراقيين، بالرغم من أنها لم تقطع الخيط الذي يصل فنها بعدد من تلك التجارب وبالأخص ما كان معنيا منها باستلهام الجانب التراثي. فكان معرضها الشخصي الأول الذي أقامته في ألمانيا عام 1964 يحمل في طياته نوعا من الحنين إلى حياة فنية، كانت تود لو أنها لم تنفصل عنها. كانت وداد في ذلك المعرض لا تزال خاضعة لتأثيرات معلميها ولم تكن قد اهتدت إلى أسلوبها الشكلي الخاص.

فجأة تحل الموسيقى

عند أسوار قصر الحمراء بكيت تقول الأورفلي وهي تشير إلى اللحظة التي ستتذكرها كلما وضعت فرشاتها على سطح اللوحة، وهي لحظة امتزج من خلالها تاريخ التربية الثقافية الشخصي بالمعطى الفني الخارق الذي انطوى عليه ذلك الأثر الجمالي العظيم. بعدها لم يعد لدى وداد ما تقوله خارج شغفها الأندلسي المحلق، حتى بغداد الحاضر كانت بالنسبة إليها نوعا من أندلس مستعادة. غير أن أهمية تلك اللحظة المشرقة التي عصفت بحياتها لم تكن تكمن في علاقتها بالرسم بشكل مباشر، بل بفن آخر كان قد استولى في وقت مبكر على كل اهتمامها وظل يرافقها في كل مراحل حياتها هو فن الموسيقى. هل تذكرت الأورفلي وهي تحث الخطى بين أروقة الحمراء مقولة كاندنسكي كل الفنون تسعى إلى أن تكون موسيقى؟

دوزنة المرئيات

في عمر الست سنوات درست وداد العزف على البيانو، بعده تعلمت العزف على الأوكروديون، غير أن العود بأنغامه الشرقية كان له أكبر الأثر في إطلاق موهبتها التي صارت توائم بين الرسم والموسيقى كما لو أنهما الشيء نفسه. تتذكر أنها بعد زيارتها الأندلسية كانت قد رسمت امرأة، ولكنها ليست كالنساء. لم يكن فن البورتريه يستهويها، فكانت تعيد صياغة الشكل البشري بما يشبه إعادة التوزيع الموسيقي. كانت المرأة التي أنجبت ابنتين وولدا تود أن تعيد خلق الأشكال بعد دوزنتها موسيقيا. وهو ما دفع بها في ما بعد إلى التعلق بالنظام الداخلي لفن الزخرفة. وهو نظام لا تكشف عنه الأشكال بشكل مباشر، بل توحي به وتشي بعناصره. لقد أعادها شغفها بالزخرفة إلى بغداد القباب والأهلة والمنائر والأقواس والأروقة. بغداد التي حرمت من رؤيتها زمنا طويلا ولم تكن تحضر إلا من خلال المقام العراقي الذي كان بالنسبة إليها بمثابة هاجس سمعي كان يرافقها أينما ذهبت.

بغداد المتخيلة وراء ضباب واقعها

تعدنا وداد الأورفلي اليوم بنشر مذكراتها. في عمر السادسة والثمانين لا تزال ذاكرتها متقدة، غير أن الأهم من ذلك أنها لا تزال قادرة على مداعبة أوتار العود بأصابع كفّت عن الرسم منذ سنوات. فالرسامة التي غادرت بغداد منذ أكثر من عقد من الزمان لتقيم في الأردن لم تعد تقوى على رسم مشاهد صارت بعد الاحتلال ضبابية. بالنسبة إليها فقد اختفت بغداد، مشهدا كونيا كانت تطل من خلاله على العالم. لا تزال أصوات تلك المدينة وحدها حاضرة في خيالها. لذلك تفضل أن تكون الموسيقية التي تجسد بأنغامها قيامة عالم من صمته على أن تكون الرسامة التي تصور انهيار ذلك العالم.

لن يكون مفاجئا أن نقرأ أن الأورفلي تستعد الآن لإصدار إسطوانتها الموسيقية الأولى. هل استيقظت طفولتها لتكون معادلا موضوعيا لزمن صار ينوء بعاطفته من غير أن يهبها معنى الخلود الذي انطوت عليه مباهج زيارتها الأندلسية؟

الشعر باعتباره خلاصا

منذ سنوات وهي تكتب الشعر باللغة الدارجة، تذكر قصائدها برسومها. إنها مدائح موجهة إلى مدينة ما كان عليها أن تختفي. كانت وداد في رسومها التي كانت تنفذها بصبر وأناة كما لو أنها تمارس الحياكة حريصة على أن تفلت من المعنى. المعنى الذي هو أشبه بقفص تعبيري. كان فيض عاطفتها يغطي على المضامين والأفكار. لذلك فغالبا ما يتخذ حنينها إلى المكان الذي اقتلعت منه طابعا رؤيويا يغلب عليه شعور عميق بالضياع. وهو ضياع يمتزج فيه المكان بالزمان ليشكلا وعدا بفردوس صار من الصعب تخيل وجوده.

هل كانت بغداد موجودة ؟

شيء من مرارة ذلك السؤال يتسلل إلى كلمات الرسامة التي صارت ترى في الشعر فاصلة بين دمعتين. أما الموسيقى فهي حقلها الذي لا يزال نضرا. تعيدها ضربات العود إلى عالم هذياني، يشرف بنزاهته وعفته على أندلس لا تزال قيد التشكل. لذلك لا يمكنني القول إن وداد الأورفلي هي امرأة من الماضي، فهي امرأة عراقية لزمن لم يحضر بعد. إنها امرأة كل الأزمنة التي عاشها العراقيون وهم يحلمون في استعادة المدينة التي رسمتها. بغداد كما رسمتها وداد الأورفلي هي مدينة الحلم والهدوء والراحة والتطلع إلى الأبدية.