أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

*النجمة مريم الغامدي.. أول مُنتِجة في تاريخ التلفزيون السعودي! *بقلم: زينب علي البحراني

*النجمة مريم الغامدي.. أول مُنتِجة في تاريخ التلفزيون السعودي! *بقلم: زينب علي البحراني
 *النجمة مريم الغامدي.. أول مُنتِجة في تاريخ التلفزيون السعودي!
*بقلم: زينب علي البحراني
يولدُ البشر بأقدارٍ ترسُمُ طريقَ مُستقبلهم من عالمِ الغيب، ثمة من تكون خطوط حياتهم أُفقيَّة تقليديَّة تكاد تكونُ غير مرئيَّة وهُم أكثريَّة، مُقابل أقليَّة نادرة لا ترضى لها أقدارها بأقل من النجوميَّة، ومن أولئكَ الأقليَّة المولودة بشرارة إبداعٍ تكبر معها لتحمل شُعلتها النجمة السعوديَّة القديرة/ مريم الغامدي.
في أواخِر أربعينيَّات القرن العشرين وُلِدت مريم الغامدي في مدينة "أسمَرَة" الإريتِريَّة التي كانت مُستعمرةً جميلة بناها الإيطاليّون على غِرار مدينة روما الإيطاليَّة لتحظى بلقب "روما الصغيرة"، هُناكَ حيث تلتقي الجوامِع بالكنائس والمعابِد في رمزٍ للتعايُش الإنساني السامي، وتزدان الطرقات بالمدارس ومصادر الثقافة والمباني التي تُعلن عن تطورٍ عُمرانيٍ من طرازٍ رفيع، وفي "شارع الإمبراطور" كان منزل والدها الذي هاجرَ من السعوديَّة إلى تلكَ المدينة أعوامًا للتجارة، وكأي مُغتربٍ يسبح في بحار الحنين لسماع لُغته العربيَّة لم يكُن أمامه في تلك الحُقبة الزمنيَّة إلا مُعانقة إذاعة "صوت العرب" بسَمعِه طوال فترات البث.. ورثت الطفلة عشق الإذاعة من والدها، فكانت تحبو دائمًا نحو جهاز المذياع الضخم بافتتان، وحينَ تمكّنَت من المشي كانت أولى خطواتها نحو هذا الجهاز الذي استحوذ على أحاسيسها، وقبل أن تصل إلى سن التعبير بالكلمات كانت أناملها الناعمة الصغيرة تقبض على كف والدها لتقوده نحو ظهر المذياع مُشيرة برغبتها إلى الدخول هُناك، الدخول إلى حيث ذاك العالم الفاتِن حيث تأتي تلك الأصوات الآسِرة للقب.
كبرت "مريم" مُستمتعةً باكتشافاتها الطفوليَّة في ذاك المُجتمع الذي يمتاز بتنوّع المُعتقدات، الديانات، العادات، التقاليد، التعددية العرقيَّة، كل هذا تحت ظل قبولٍ وتعايشٍ يبعث في النفس الارتياح، كانت المدينة تحتضن عددًا كبيرًا من الجاليات الغربيَّة، وكانت الطفلة تلحظ امتلاك السيدات الأوروبيات والأمريكيَّات المُثقفات حُريَّة التعليم والعمل واتخاذ القرار، وتحلُمُ أن تملك تلكَ الحُريَّة الإنسانيَّة اللذيذة.
- توقٌ للتعلُّم!
__________
كانت ترى الأطفال يركضون نحو مكانٍ ما في الشارع؛ فتتبعهم لتذهب معهم، وهناك وجدَت نفسها داخل جامعٍ في حلقةٍ لتعليم الأطفال القرآن الكريم، فوجئ إمام المسجد – الذي كان شيخًا مصريًا- بوجودها لأن ليس من المُعتاد قدوم بناتٍ إلى هذا المكان فسأل بدهشة: "انتي بنت مين؟"؛ فأشارت له نحو متجر والدها الذي كان في الشارع ذاته، عندها ابتهجَت أساريره وقال: "آه.. انتي بنت عم محمد!"..
وطلبَ منها الذهاب إلى والدها لإخباره والعودة برسوم التعليم، لكن والدها لم يوافق، فما كان منها إلا الذهاب كل يوم إلى الجامع والجلوس على العتبة لسماع الأطفال بينما مُعلمهم يعلمهم قراءة القرآن، فتحفظ معهم قدر استطاعتها، وحين يخرجون بعد الانتهاء تسألهم عمَّا كتبوه على ألواحهم، فتربط أشكال الحروف التي تراها بما حفظتهُ من كلمات الآيات.. خرج الشيخ ذات يوم ورآها ووجدها حفظت سورًا بمُفردها، فأخذها معه إلى والدها وقال له: "بُص.. البنت دي بتحفظ أحسن من الأولاد، خليها تحفظ".. وفي سن السادسة والنصف كانت قد أتمَّت حفظ القرآن الكريم.. تلك الذكرى التي ظلَّت مدينةً لها حتى بعد مرور عشرات الأعوام؛ إلى درجة أنها كُلما نالت جائزةً كُبرى في مجال الفن أو الإعلام تبذل جُهدها للعودة إلى أسمرة كي تجلس على عتبة ذاك الجامع – الذي تغيّر اسمه- وتبتهل إلى رب العالمين شاكرةً على تلك الأيَّام التي قادتها إلى مكانها اليوم.
- نحو عالمٍ جديد!
______________
في سن السابعة قرر والدها العودة مع أُسرته إلى مدينة "جدة" في السعودية، كانت تتحرّق شوقًا للانضمام إلى المدرسة كما يفعل الأطفال في "أسمرَة"؛ لكن مدارس البنات لم تكُن قد تأسسَت في المملكة بعد، كانت تُحاول التعويض بالذهاب إلى كُتَّاب يُدعى "كُتَّاب ستيتة صفيَّة"، والطريف أن "ستيتة صفيَّة" حين وجدتها تحفظ القرآن الكريم بأسلوبٍ استثنائيٍ مُمتاز؛ قررت جعلها تُساعدها في تعليم بقيَّة الأطفال مُقابل أجرٍ مادي لأن مُستواها أعلى من مُجرَّد تلميذة، لكن حلم الجلوس على مقاعد المدرسة لم يُفارقها، فظلَّت تسأل دائمًا بصوتٍ مسموع وتتساءل بينها وبين نفسها عن اليوم الذي يتحقق فيه هذا الحلم، إلى أن جاء يوم تحقق المُعجزة!
طُرقَ باب المنزل ذات يوم فركضَت لتفتح؛ وإذا بالزائر ابن عمّتها الذي كان موظفًا في "مجلس الوزراء"، وبادرها قائلاً: "جئتكِ بخبرٍ يُفرحك جدًا.. الملك فيصل وحرمه الأميرة عفَّت افتتحا مدرسة للبنات.. أين خالي؟ سأكلّمه لأجلك"..
لم يكُن والدها موافقًا لإيمانه أن مصير البنات هو الزواج ورعاية شؤون المنزل، ومثل هذا المصير لا يستحق هدر الوقت في المدارس.. لكن محاولات الإقناع استمرَّت إلى أن وافق، فتحقق حلمها أخيرًا حين صارت تلميذة في مدرسة "دار الحنان"، وهُناك كانت انطلاقة نحو عالمٍ جديد..
كانت "دار الحنان" التي أُسست بإشراف سمو الأميرة "عِفَّت" في ذاك الوقت مدرسةً مُتطوّرة، تضم مسرحًا بتقنياتٍ مُتميزة وفق مقاييس تلك المرحلة الزمنيَّة، وكانت تجارب الأداء التي تؤدَّى على خشبة المسرح قد خطفت لُب "مريم" ابنة التسع سنوات، تُنصتُ للحوار بشغف حالمةً بنيل دورٍ في إحدى المسرحيَّات، إلى أن جاء يومٌ أُصيبت فيه التلميذة التي اختيرت لتأدية دور "أُميَّة بن خلَف" في مسرحيَّة "بلال بن رباح" بمرضٍ منعه معه الأطباء عن القيام بأي مجهود، وجدت إدارة المدرسة نفسها في موقفٍ مُحرج خلال وقتٍ ضيق يسبق يوم عرض المسرحيَّة، فتقدمت الطفلة مريم نحو مُديرة المدرسة متوسلة: "ماما مُفيدة.. أرجوكِ خذوني أنا للدور"، وألحَّت عليها إلحاحًا طفوليًا مشحونًا بالإصرار جعل الإدارة تُقرر إعطاءها فُرصةً تجريبيَّة، عندها فوجئوا بكونها تحفظ نص المسرحيَّة كاملاً، وسُرعان ما تمت الموافقة على إسناد الدور لها.. وخلال الأعوام التالية تصاعد بزوغ موهبتها في التمثيل والكتابة الأدبيَّة المُتجلية في مواضيع التعبير والإنشاء إلى درجةٍ جعلت المُعلّمات يُعلّقنَ تلك الكتابات على الحائط المدرسي لتستمتع بقية التلميذات بقراءتها، ولطالما ازدانت دفاترها بأن يكتُبنَ لها: "ستُصبحينَ ذاتَ شأنٍ عظيم"..
- حان وقت الإذاعة!
_________________
في سن الثالثة عشرة تحالفت الأقدار مع الشغَف مُجددًا؛ وإذا بسفير المملكة العربية السعوديَّة في جمهورية مصر العربية الأستاذ/ فؤاد شاكر يلحظ موهبتها خلال عرضٍ من عروض مدرسة دار الحنان، فما كان منه إلا أن سأل مُديرة المدرسة: "هل تظنين أن هذه الفتاة قد توافق إن طلبنا منها التحدث عبر أثير إذاعة المملكة؟"، فجاءه الرد سريعًا: "توافق وحَسب؟! إنها مُدمنة إذاعة، عاشقة إذاعة إلى درجة أنها تجمع الكراسي لتجلس زميلاتها ويسمعن إذاعتها التي تُعدها بنفسها!".، فما كان من سعادة السفير إلا أن كتبَ خطابًا للأستاذ/ عباس فائق غزاوي" الذي كان إداريًا وإعلاميًا ذا شأنٍ كبيرٍ في الإذاعة تزكيةً للفتاة الموهوبة كي تحظى بفرصة هُناك.
أطلَّ صوتها عبر أثير الإذاعة ببرنامجٍ يُدعى "همس الأصيل"، تتلو من خلاله بعض قصائد الشعراء العرب، وبعد انتهاء التسجيل ذات يوم سمعَت في طريقها للمُغادرة صوت أطفالٍ يُسجلونَ عملاً دراميًا إذاعيًا، فأغوتها لذّة الفن للسؤال عمَا يقومون به؛ فقيل لها أن هذا برنامج الأطفال الذي تُقدمه ماما أسما، فما كان منها إلا أن اقتربَت من مُقدمة البرنامج قائلة بتوقٍ وشغَف: "أُريد العمل معكم"، وكان ردّها أن رحّبَت بها وضمّتها إلى فريق التمثيل، لكن التمثيل لم يكُن كافيًا لإشباع جموحها الإبداعي، فكتبَت تمثيليَّة للأطفال وقدّمتها الأسبوع التالي، وكان خبر موافقة الإذاعة على إنتاجها وتقديمها للجمهور من أسعد الأخبار.
على مدى أعوام ظلَّت "مريم الغامدي" مُخلِصةً للإذاعة، كان صوتها قاسمًا مُشتركًا في مُختلف البرامج: فُصحى، عاميَّة، إخباريَّة، ترفيهيَّة، منوّعات، إلى درجة أن المسؤولين كانوا يشعرون دائمًا بالثقة في استقرار خط سير العمل عند غياب أي زميلة أخرى مادامت هي موجودة وقادرة على تغطية مكانهن بجدارة، وعن هذا متبَ عنها أحد الكُتاب الصحفيين السعوديين ذات يوم: "يُخيّلُ لي أن مريم الغامدي وُلدَت وبيدها المايكروفون"!
سُرعان ما رحَّبَت بها شاشة التلفاز وبدأت التمثيل وكتابة السيناريو، خلال دراستها في المرحلة الثانويَّة كتبت أوَّل سهرة تلفزيونية، وفي بدايات دراستها الجامعيَّة كتبت مُسلسلاً من ثلاثينَ حلقة.. بعد أعوام أُخرى من العمل باجتهاد شعرَت أن الأدوار التي تُقدم لها في تلك المرحلة أقل من مستوى طموحاتها ولا تكفي لإشباع موهبتها، فقررت أن تخوضَ غِمار تجربة الإنتاج التلفزيوني، عندها قال لها المُحبِطون ممن ظنوا استحالة موافقة الجهات المسؤولة على طلبها: "ما لكِ ومال هذا المجال المُتعِب؟ رجالٌ لم يُفلحوا فيه وتظنين أنكِ ستُفلحين؟!"، لكنهم فوجئوا حين جاءها اتصالٌ هاتفي بعد شهرٍ من إحدى الجهات المُختصَّة قائلاً: "مبروك، اذهبي لاستلام خطاب الموافقة على إنشاء المؤسسة"، وبهذا أصبحَت أوَّل سيّدة سعوديَّة تؤسس مؤسسة إنتاج بسجلٍ تجاريٍ مُعتمد في المملكة.
- الطفل.. أولاً:
____________
كان همها الأساسي تقديم برامج مُختلفة للأطفال خلال تلك المرحلة، برامج مشوّقة ترتقي بعقليَّة الطفل وتوسّع مداركه، فأنتجَت برنامج (موسوعة الطفل المرئيّة) على غرار البرنامج الأمريكي الشهير (شارع السمسم)، وكانت أوَّل من أدخل الجرافيكس لبرامج الأطفال في التلفزيون السعودي، ولأنه لم يكُن وقتها متوفرًا في العالم العربي طلبت الاستعانة بخبرات إنجليزية في لندن، كان سعر الثانية الواحدة 500 ريال سعودي ما يجعل من التكلفة الإجماليَّة باهظة، وكانت النتيجة أن استغرقت موافقة الحصول على التكاليف الإنتاجيَّة من وزارة الإعلام للجزء الأوَّل والثاني من البرنامج ثمانية أعوام! وتوّج هذا المجهود بنيل أوّل جائزة من القاهرة عام 1985م.
لعلَّ أبرز ما يُميز مسيرة النجمة مريم الغامدي المُلقبة بـ (نجمة عصر التلفزيون الذهبي)، والتي شاركت في بطولة أكثر من خمسينَ مُسلسلاً تلفازيًا، مسيرتها العِصاميَّة المُعتمدة على جهودها الذاتيَّة بعد ثقتها برب العالمين، كانت – ومازالت- تعيش مع المُجتمع وتواجه ما يواجهه من هموم وتحديات حقيقيَّة على أرض الواقع دون تهبط عن عرش كرامتها لطرق باب مسؤول إلا لإرسال مُقترح، وكانت تُرسل مُقترحاتها عبر بريد الصادر والوارد في الوزارة كأي عاملٍ عادي في المجال دون وساطات أو خطوط مُباشرة، لذا ظلّت تملك حُريَّة إبداعها الخاص، واستمرّت إقامتها في قلوب جمهورها على مدى عقودٍ من المحبة والتقدير.
______________
*موقع "شهريار النجوم"، ٢٠ نوفمبر ٢٠١٥م.
https://shahrayar-stars.com/2025/11/1036

صور مميزة