أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

حتى لا تموت مختنقاً بصمتك بقلم: شيماء الوطني ـ العرب نيوز اللندنية

حتى لا تموت مختنقاً بصمتك بقلم: شيماء الوطني ـ العرب نيوز اللندنية
 لتشارلز بوكوفسكي قصيدة معنيٌ بها كل من يلج فضاء الكتابة، هي في رأيي ناموس لابد وأن يضعه المرء نصب عينيه قبل أن يحمل القلم، عنوانها (تريد أن تصبح كاتباً) يقول فيها:
‎تريد أن تصبح كاتباً؟
‎إذا لم تخرج منفجرةً منك، برغم كل شيء، فلا تفعلها.
‎إذا لم تخرج منك دون سؤال، من قلبك، ومن عقلك، ومن فمك، ومن أعماقك، فلا تفعلها.
‎إذا كان عليك أن تجلس لساعات محدقاً في شاشة الكمبيوتر أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة باحثاً عن الكلمات،
فلا تفعلها.
إذا كنت تفعلها للمال أو الشهرة، فلا تفعلها.
إذا كنت تفعلها لأنك تريد نساءً فلا تفعلها.
إذا كان عليك الجلوس هناك وإعادة كتابتها مرة بعد أخرى، فلا تفعلها.
إذا كان ثقيلاً عليك مجرد التفكير في فعلها، فلا تفعلها.
إذا كنت تحاول الكتابة مثل شخص آخر، فانسَ الأمر.
إذا كان عليك انتظارها لتخرج مدويّةً منك، فانتظرها.. بصبر.
إذا لم تخرج منك أبداً، فافعل شيئاً آخر.
إذا كان عليك أن تقرأها أولاً لزوجتك، أو صديقتك، أو صديقك، أو والديك، أو لأي أحد على الإطلاق
فأنت لست جاهزاً.
لا تكن مثل كثير من الكتّاب، لا تكن مثل آلاف من البشر الذين سمّوا أنفسهم كتّاباً.
لا تكن بليداً ومملاً ومتبجّحاً، لا تدع حب ذاتك يدمّرك.
مكتبات العالم قد تثاءبت حتى النوم بسبب أمثالك، لا تضِف إلى ذلك.
لا تفعلها، إلا إن كانت تخرج من روحك كالصاروخ،
إلا إن كان سكونك سيقودك للجنون أو للانتحار أو القتل.
لا تفعلها، إلا إذا كانت الشمس داخلك تحرق أحشاءك.
لا تفعلها، إلا عندما يكون الوقت مناسباً، إذا كنت مختاراً.
ستحدث الكتابة من تلقاء نفسها، وستستمر بالحدوث مرة بعد أخرى
حتى تموت أو تموت هي داخلك.
لا توجد طريقة أخرى.
ولم توجد قط.
اكتب لأن روحك تختنق بكلمة، لأن الحياة تضيء حرفاً على جدار قلبك، اكتب لأنك، لو لم تكتب، ستموت مختنقاً بصمتك.
‎ربما لم تكن هذه القصيدة لتعني شيئاً عند الأب الذي قرر في يومٍ ما وضع القلم في يد صغيرته ذات الثمانية أعوام!
أرادها أن تكتب، وأن تملأ الفراغ من حولها بالكلمات.
ولم تُخيب ظنه استبدلت دميتها بحروف وكلمات صارت تصوغها في جمل تتهجاها، وبات عقلها يصطخب بسرد يمليه عليها والدها الذي اشتهر بإقتناصه للتفاصيل من حوله، كان والدها يكتب بعدسة كاميرته الفوتغرافية فيما أراد لها أن تكتبَ بالقلم!
‎كنتُ تلك الطفلة التي ولجت عالم الكلمات، دون أن تعي أنها ستكون قدرها، حتى بعد أن اخترت دراسة الهندسة المعمارية، أظن أن الكتابة تعرف من تختاره، تنتخبه، تسقطه في حبائلها وتقتنصه في فخها!
هل قلت " فخ "؟ استدرك واتساءل: هل الكتابة مصيدة أو فخ يوقع بطرائده؟
هي فخ ومصيدة، لكنها مصيدة مُغرية ما أن يقع المرء في شباكها حتى يستسلم لغوايتها ولا يفكر في التحرر منها، بل أنه يترك لنفسه حرية أن يتورط فيها أكثر فأكثر!
لطالما تساءلت عن العلامة أو الإشارة التي استقرأها والدي وجعلته يرغب في أن أكون " كاتبة "!
لم يدخر جهداً ولا اهتماماً في سبيل تشجيعي وحثي على ممارسة الكتابة، أخضعني لتدريبات لكتابة إبداعية مبسطة بكل صبر وأناة، كنت أظنها ألعاباً نتسلى بها بالكلمات والمعاني، ولم أفطن لحيلته!
أما والدتي فقد غدّت عقلي بمخزون هائل من الكلمات والأشعار التي كانت تقرأها عليّ، لتزيدني عشقاً والتصاقاً بالكلمات.
وهكذا وقعتُ في فخ الكتابة!
عشقت الكتابة فعلى أجنحة الكلمات استطعت أن أعيش حيوات عدة وفق تشكيل مختلف، واقتحمت عوالم من الدهشة لم أكن لأعيشها على أرض الواقع، امتلكت آلة الزمن فحملتني تارةً إلى المستقبل وتارةً أخرى إلى غابر الأزمان وزادي في ذلك الفكرة، وهبت الحياة لمن رحلوا، وكتبت عن أناس لم يكونوا ليعرفوا، وانقذت آخرين من أن يقعوا ضحية للنسيان.

واليوم وبعد أعوام طوال لم أترك فيها القلم أستطيع القول إن للكتابة لذة!
فالكتابة ليست عملية رص لكلمات جوفاء فارغة، إنما هي لحظة خلق من عدم، ومخاض للمعنى حين يتجلى كبصيص لحياة جديدة تولد مع كل نص يكسر لحظات الصمت ويدفعنا نحو البوح اللذيذ.
هي لحظة فارقة بين لحظتين، الأولى حين نجلس أمام صفحة يغمرنا فيها خواء البياض، ولحظة مماثلة نرى فيها الكلمات وقد تعانقت تتراقص بالمعنى والوجود.
تلك اللحظة المميزة لا يستطيع استيعابها إلا من عشق الكتابة حد الثمالة، ففيها شهادة أن من ملأ تلك الصفحة قد عرف ذاته بالقدر الذي مكّنه من أن يترك خلفه بصمة تسمُ كينونته.
كم تبدو الحياة مثيرة حين يضع المرء نقطة النهاية لنص ما كتبه وهو يعلم أنه سيعري ذاته ويعري أفكاره أمام الآخرين دون أن يكترث بمن سيقرأه، يشبه في ذلك من يضع رسالة في زجاجة تتقاذفها الأمواج حتى تصل إلى ضفة مجهولة.
بالعودة إلى قصيدة بوكوفسكي، أدرك أنه بقصيدته ولاءاته المتكررة، يخبرنا أن الكتابة وإن كانت مطلب وشغف يتمسك بتلابيب البعض إلا أنها تظل عصية دون أن تُسلم زمام أمرها لأياً كان، لها شروطها ولها مواصفاتها ولها مفاتيحها أيضاً.
ككاتبة أهمس لنفسي في كل مرة بأن ما أكتبه سيكون نصي الأخير، وفي قرارة نفسي أعلم أني غير جادة في ذلك، لأني متيقنة بكم اللذة والسعادة التي تغمرني كلما تحديت الصفحة البيضاء المنبسطة أمامي، ولأني أعلم أني إن لم أكتب سأظل مثقلة بحمل الكلمات المخبوءة في عقلي، والتي سترهقني وتوقظ مضجعي.
سأظل أكتب لأني أمام الصفحة البيضاء أجلس أمام مرآة تعرفني نفسي وتكشف تفاصيلي.
سأكتب لأني بالكتابة أجلس على كرسي اعتراف أفصح عن خطاياي دون خجل.
سأكتب لأن الكلمة التي لا تُكتب تصمت، والصمت الذي يطول يخنق.
أتذكر أني قرأت يوماً عبارة قالها أحدهم: أنا أكتب لأقابل أشباحي!
أما أنا فأكتب لئلا اختنق بصمتي!
شارك المقال