أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

حضن آخر للدموع نصّ نثريّ. الأديبة هدى حجاجي احمد " أصبحت مثل صبار حزين لا يبكي لأنه يدرك أنه لو بكى مائة عام لن يحتضنه أحد." محمود درويش

حضن آخر للدموع نصّ نثريّ. الأديبة هدى حجاجي احمد  " أصبحت مثل صبار حزين لا يبكي لأنه يدرك أنه لو بكى مائة عام لن يحتضنه أحد." محمود درويش
 حضن آخر للدموع
نصّ نثريّ.
الأديبة هدى حجاجي احمد

" أصبحت مثل صبار حزين لا يبكي لأنه يدرك أنه لو بكى مائة عام لن يحتضنه أحد." محمود درويش

داخل ذلك المكان شيء أشبه بالحلم، لا أعلم ماهيته، حقا كائن ما غريب، يبعث بي شعورا ما، كأنني عشته يوما ما... هنا وجدت نفسي أخطو بخطوات متثاقلة في اتجاه تلك الغرفة، لأدخل فيها فإذا بي أمام روح منطفئة، تجلس على أريكة بالية، شاردة في سقف الغرفة المهترئ، وكأنّ عاصفة ما قد مرت بذلك المكان فتركته خرابا ، ليس الغرفة فقط، بل هذه الروح المنكسرة أيضا، حدّقت عيناها، ونزلتا من السقف إلي... اخترقتني نظراتها حتى أحسست أنها جزء مني، عيناها تروي قصة ما، حين تراها ما عساك إلا أن ترى الدموع التي صنعت طريقها الخاصّ على خدّيها ،تساءلت حقّا من هذه؟!
تقدمت نحو الأريكة التي هي جالسة عليها، جلست بجانبها بعفويّة، لا أعلم إن كانت تراني الآن وقحة أم لا، فأنا غريبة اقتحمت عليها خلوتها بنفسها، ولكن لا شيء يهمّني أمام فضولي الذي يزعج رأسي بسخافته طالبا أن أكشف ما بها، الحقيقة التي يجب أن تعلموها أنّني كائن فضولي، حسنا، كثيرون لا يعلمون هذه الحقيقة، أخرست صوت رأسي الثرثار، وأدرت عينيّ نحوها، مازالت تناظرني بانكسار ، صدقا، لا أعلم كيف أبدأ الحديث، إذا سألتها ما بك؟ سأبدو كأنّني أحشر أنفي في أشياء لا تخصّني، ولكن ما العمل !! فضولي سينهكني،
قطع صوت أفكاري مجددا، ولكن ليس مني هذه المرة، بل من الروح التي بجانبي، التي شرعت في النّواح ، صوت بكائها يحمل بين طيّاته شجنا أعرفه، لم أجد ما أقوله فاحتضنتها دون تردد، وتركتها تفرغ ما بداخلها، بكاؤها يزداد ثانية بعد ثانية، و هذا مؤلم !! بكاؤها مؤلم، إنه يتسلل إلي، إذ وجدت عينيّ تبكيان بدون إرادة، لقد بدا الأمر وكأنّني أمتص حزنها ومشاعرها، وكل ما بها ينتقل إلي، ماذا يحدث؟!!! فجأة اختفى ملمسها من بين يديّ، ما عدت أشعر أنني أحتضنها، فتحت عينيّ اللتين أغلقتهما قبيل برهة، أناظر المكان الذي أصبح فارغا، أديرهما هنا وهناك لا شيء، الغرفة فارغة وأنا هنا أحتضن نفسي، لقد اختفت تلك الروح وكأنّ شيئا ما متخفّيا قام بابتلاعها!! أو كأنّها هي ابتلعتني وأصبحت تسكن داخلي، شعرت بالهلع، وكانت لحظة استيعاب تضرب خيوط عقلي، هل كانت تلك أنا أم هي قصة أشبه بالحلم؟!!!!
..........................
نصّ نثريّ أشبه ما يكون بالقصّة، بل هو بها ألصق، عنونته الكاتبة بحضن آخر للدموع، وقد اختزل العنوان مضمون النص، فكُفينا التأويل بعيد، وكانت عبارة محمود درويش أجمل استهلال وأمتن عَتبة، إذ أنبأت أنّ هناك حزنا وهناك حاجة للبكاء ولكنّ الدمع لم يُذرف، لأنّه يحتاج إلى حضن، فهل احتضان المجروح الحزين يستدرّ البكاء، نعم، البكاء يلزمه حضن، فلن تبكي وحيدا، لن تبكي إلا بحضرة من يعزّ عليه بكاؤك، فيحضنك ويربّت على ظهرك، ويبلّل بدمعه مفرق رأسك، فهل وجدت الكاتبة حضنا؟ نعم، قد اصطنعت من نفسها حضنا لنفسها، بخيال ليس من الخيال، بل هو حقيقة نفسيّة يعيشها المجروح، إذا ما عزّت عليه الأحضان احتضن نفسه، وبكى لها أو استبكاها، دخلت الكاتبة غرفة ما، لتجد شخصا ما حزينا، اختارت لوصف المكان الأريكة البالية والسّقف المهترئ، فالقعود من ضرورات الحزن، فالحزين يكره الوقوف، والحزن لا يترك قوة للوقوف، والقاعد على الأريكة يقلب بصره في كلّ اتجاه، ولكن أكثر بصره في السقف، السقف هنا إشارة للسماء، وكان لا بد من السقف مادام انسدّ الأفق بجدران الغرفة، الشخص يبحث عن فضاء يبثّ عبره الأحزان، فالغرفة تعني التكدس والتراكم، دخلت الكاتبة الغرفة فاخترقتها نظرات الشخص التي تحولت إليها من السقف، أقبلت إليها احتضنتها، جعلتها تفرغ كلّ دموعها، وفجأة تختفي تلك الشخصية، التي كشفت الكاتبة حقيقتها بأنها الروح، وكأنّها لم تكن موجودة، أين ذهبت؟
أجابت الكاتبة جوابا غير مؤكّدا أنّها حلّت فيها، ابتلعتها، الروح ابتلعت الكاتبة أم الكاتبة ابتلعت الروح؟ سيّان إذا ما انتهى مشهد الاحتضان، وتبقى لفظة ابتلعتني ذات مدلول نفسيّ دقيق في غياب الشيء في الشيء، غياب الروح في الكاتبة، أو غياب الكاتبة في الروح، ... كلّ السّرد هذا بأساليبه وتراكيبة وألفاظه الموحية يسلمنا إلى أنّك في أحزانك الكامنة التي لا تثرثر بها ولا تبوح بها، تحتاج إلى حضن، فلا بدّ أن تعود إلى نفسك وتصطنع لنفسك حضنا. وهكذا وضعتنا الكاتبة أمام لحظة نفسيّة دقيقة، التقطتها من غور إنسانيّ بعيد، فقد أجادت الغوص، وطاوعتها اللغة التي جدّفت بها بفنّيّة ماتعة، وأخذتنا في خيال متموّج تتهادى عليه قواربنا التي تحمل نفوسنا المثقلة بالدمع والكتمان.
أ. محمد موسى العويسات
القدس. ٣١/ ٧/ ٢٠٢٥
image