أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

الكاتب احمد منصور --صوت عذوبتي

image
صوتُ عذوبتي
ولدت ذكرياتي كما تولد الحمامة على غصن الزيتون . يركض سالم ابن السابعةِ الذي يكبرني بعام ، و أنا أرفع جناح البراءةِ و أطير خلفه . هنا ليس بالبعيد عن سرعتنا يحتل غريف الشيخ عثمان الجهة الشرقية للقرية البدوية بسيناء ، و هو مرتفع رملي ناعم ذهبي اللون ، أما هنالكَ بالجهة الشمالية ،يقطن غريف الشيخ مسعود و هو أضعاف ارتفاع الغريف الشرقي . يحمل سالم الذي يقاسمني أنفاسي زلاجته الكرتونية الناعمة ، و يتركَ للهواء مداعبة شقاوتنا ، و نحن نهبط من أعلى غريف الشيخ عثمان ؛ كلما اِبتسم فاحت رائحة المسك من بشرته التي تكتسي بلونه . أما بياض نفسه الرقراقة فقد أفاضت على لسانه عذوبه ملائكية ، تغلفت بذكاء عبقري بالحفظ و الانشاد . كنتُ أحلم أن تطأ قدمانا غريف الشيخ مسعود و أخاف من بعد المسافةِ ، أدرك سالم أمنيتنا ، فقررنا أن نلقي الخوف وراء ظهرينا . خدعتنا شقاوة أحلامنا ، سرنا منذ الصباح و حتى الظهيرةِ ، و عندما أصبحنا على مشارف الغريف . كاد العطش أن يعتصم بقدمينا تحت أقرب شجرة نخيل . لكن إصرار سالم كان أقوى من ضعفي . توقفنا تحت الغريف الشاهق و قد ابتلع الكثير من نخيل العائلات و تنفست بعضها طولا لتحتضنه و ترسم للبشر لوحة طبيعية تسجد لها فطرة العقلاء . لم نستطع الصعود من الارهاق ، كانت المشكلة في ايجاد بئر يروي عطشنا . اشرأب سالم بعنقه فلمح مِشَّّرة و هي مكان مخصص لصناعة العجوة على مرمى البصر . اكتست ملامحة الحياة ، و اندفعت بنا الحيوية نحوها . بمنتصف المسافة و إذ بخطوط كثيرة من البطيخ الذي يزرع على أمطار الشتاء بعيدا عن مراعي الأغنام . لا أستطع وصف فرحتنا ، و تراقص قلبينا على أنغام صوت سالم . أسكرتنا السعادة فخرجنا عن الوعي . هشمنا الكثير من البطيخ و نحن نختار اللون و الطعم . واصلنا المسير نحو المشرة ؛ فكانت المفاجأة الثانية مقام الشيخ مسعود مقامٌ بسيط للغاية . قماش أخضر مثبت جديدا بالاخشاب و جريد النخيل . سطونا على كل محتوياته الداخليه ، و فررنا بغنيمتنا نحو قريتنا . دخلنا خيامنا وقت الغروب . استجوبني أبي فأخبرته بالحقيقة . هرول أبي نحو العم سليم والد سالم ، و هو رجل خلوق يعمل لدي الجميع ، إما بالرعي أو زراعة النخيل ، و طالبه بأن يبعد سالم عن طريقي نهائيا . بعصر اليوم التالي انكشفت جريمتنا . دفع والدي ناقة تعويضا عن البطيخ ، و وعد أن يذبح ناقة آخري حتى لا تصيبني لعنة الشيخ مسعود . بعدها بأيام تهجرنا نظرا لحرب سبعة و ستين ، أصبح سالم بمحافظة ، أنا بأخرى . عاد أبي لقريتنا سبعة و سبعين ، و عاد العم سليم أول الثمانيات . فرحت بعودته كما فرحت بانتصار أكتوبر . كنتُ أخرج كل يوما لغريف الشيخ عثمان بعد العصر مباشرة كما بطفولتنا على أقابله . مللتُ من الذهاب و العودة ، و اعتقدتُ أنه نسيني . سألت عنه العم سليم فأخبرني أنه بخير ، و طالبني بالابتعاد عنه . يبدو أن موقف الطفولة ما زال يسيطر عليه . جاء شهر رمضان الكريم ، خرجت للغريف أحمل مصحفي . اقتربتُ منه و أنا منهمك بالقراءة ، و على بعد خطوات من الغريف عدتُ مذهولا . قد فطنتُ لمارد أسود كان يتكىء على فحم ذراعيه . أعطى الرعب الأمر ؛ فصارت سرعتي كما الكهرباء في الاسلاكِ . لكن هنالك صوت يسبقني . يضىء عزيمتي مرددا : سالمٌ يا أحمد ... سالمٌ يا أحمد . أسدل عقلي ستائر الفاجعة على بعد يقارب المائة مترا . التفت إليه في ذهول سالم يا الهي . ما هذا الطول ، هو أسود لكن ليس هكذا ، و ما هذه الأخاديد التي تملأ بشرته . لم ,أحتج , سوى أن أتذكر أني برمضان . اندفعت نحوه . كلما اقتربت منه ، أدركت سبب عزلته عن الناس ، لقد تربث نوع فريد من حب الشباب بوجهه ، فخلف منظرا تشمئز منه الأبصار . باغتني بعذوبة القديمة و ابتسامة روحه قائلا : _ مازل قلبكَ حديدا يا أحمد ؟ أيُّ أحدا مكانك كان سيسقط مغشيا عليه . لم أرد ؛ لكني فتحت ذراعيَّ إليه فعانقتُ طول قلبه . سألته لماذا تأخرت بالمجىء لرؤيتي ؟ _ يا رجل كنتُ أخاف عليكِ ! بهذا الرد المؤلم لخص مأساة حياته ، و كان غباء دموعي التي انفرطت أشد ألما عليه . أخذ بيدي و هو يمزح : لقد أصابتني لعنة الشيخ مسعود يا صديقي . تراقصت الدموع على خدي بضحكات أفقدتني اتزاني فسقطتُ على الأرض قائلا له : أنتقم لنا منه الغريف : يا صديقي ؛ لو أنه صاحب كرامة لغير مسار الغريف الذي أغرق المقام بالرمال .عدنا بخطوات مفتوحة حتى نلحق إفطارنا . لم أتذوق يومها سوى لقيمات على كثيرا من الماء . و ظللتُ طوال الليل أفكر كيف أرفع ظلم البشر عنه ؟! كيف توصم شخصية كهذه بأنها كالغراب . ما هذا الجهل و الظلم ؟! أنتظرتُ حتى جاء موسم صيدُ السمان . تعبتُ كثيرا كي أقنعه أن يرافقني الرحلة ، و تعبتُ أكثر بإقناع والدي . كانت المرة الأولى التي تطىء فيها قدم سالم أرض المناصب مكان ساحر لا تزيد عرض اليابسة فيه عن مائتي متر ؛ فيكون البحر الأبيض أمامك و بحيرة البردويل خلفكَ . نتركُ مسافة مائة متر و نبدأ عملية شد التراكيب و هي شباك لها عيون صغيرة و سجن تسقط فيه السمانة عند ارتطامها به . طول التركيبة عشر أمتار و بإرتفاع ثلاثة أمتار تثبت بأعمدة خشبية بطول الساحل . كانت الأيام الأولى ظالمة لي و له . لم يتعدى أيُّ منصب يمتلك خمسين تركيبة مثلي ، الزوج الواحد من السمان يوما .. و برغم مما سمعته من جيراني و اقربائي من سخرية ، كان يقيني بالله قويا . بفجر اليوم الذي أراد سالما أن يعود للقرية . جاءت فوعة و هي كلمة تقال عندما تغازل أسراب السمان الشباك بكثرة . لكن هذه المرة ، لم تُعرف لها مثيل . الصيد عادة يبدأ من أول ضوء للشمس و ينتهي مع الساعة التاسعة بأقصى تقدير لكن هذه المرة توقفنا مع العصر . كانت مهارة سالم في سحب السمان تفوقني بكثير . فقد أبتكر طرقا غير الذي تعلمها مني ، و هو يقفز كغزال ببرجله الواسع . الكل غير مصدق لما تراه الاعين من خيرات . استنجد بي جاري الذي يمتلك عشرون تركيبة فقط بعدما انتهينا من غنيمتنا ، و هو رجل تجاوز الستين من عمره . فهمَ سالم أني لم أعد استطيع الركض و لو لمتر واحد ؛ فذهب إليه . هاجم صقر شاهين سمانة أمام شباك الجار فسطت بجوارها . هرع سالم للصقر و خلصه و كأنه محترف . أصبح الجار بفضل الله ، من أثرياء القرية . حكم الناس لسالم بالعشر مخالفين العرف و لكنه قبل بالقليل . حصل على ثلاثةِ ألاف جنيه كانت وقتها ثروة بالنسبة له . عدنا من عامنا الأول ليس فقط بالخير الكثير و لكن بإنسان أحب الدنيا . لم تدم فرحتنا طويلا ، بعد شهرين كان سالم ذاهبا يستسقي من البئر القريب . لمح امرأة وراءه تحمل رضيعا . من أدبه الجم ، تنحى جانبا و تركَ لها دوره . سقت المرأة أغنامها ، و ملئت وعاء من الماء كانت تريد أن تضعه على رأسها ثم تتناول رضيعها . و لسوء حظ الرضيع و سالما . سندت المرأة بغبائها الرضيع أعلى جدار البئر الذي يرتفع مترا عن الأرض . تناولت الوعاء المياه . و خلال تناولا للرضيع سقط منها بالماء . لم ترحم هذه الغبية سالما من لسانها ، و تحمل سالم عواقب جريمتها . لم يعد هذا سالما الذي أعرفه ، تغير كثيرا . انهيت السنة الدراسية و بدأت معه من جديد . و أقسمتُ عليه أن يكون رفيقي في رحلتي السنوية للصيد . اومأ بالايجاب . تحركنا أنا و هو أول شهر سبتمبر كما كل عام . اشترينا صنارات مختلفة الاشكال و الألون لصيد الاسماكِ بالبحر و البحيرة . كان بارعا حقا في كل شىء . بالشهر الثاني من موسمنا عاد سالم صوته و ثقته بنفسه . عشنا أجمل شهرا بحياتنا . و قبل أن يطوي الموسم صفحته بأيام قليلة . ألقي سالم شَرَكٌ لصيد الأسماكِ بالبحر قبل المغرب ، كانت الليلة حالكة السود . أنتظر حتى بعد العشاء بقليل و ذهب ليتعسس ما به . رأى سالم مركبين للصيد يلتصقان شيئا فشيئا ببعضهما بالقرب من الشاطىء و هذا غير معتاد بالمرة . صرخ سالم ينادي عليهم للمساعدة . اعتقد من بالمركب أنه جندي بحرس الحدود ، و أن أحدا وشى بهم ؛ فتخلصوا سريعا من بضاعتهم و أموالهم بإلقائها بالبحر . خرجتُ لصرخته من خيمتي ، فاجأني إطلاق نار كثيف . انبطحت أرضا . سمعت صرخته الثانية . ركضتُ نحوه ، و أنا اتمنى أن أسمع منه كلمة . وصلت إليه ، و جلست على ركبتي و الدماء تسيل من كل اعضائه ، و قبل أن أضمه لصدري ، أمرني أن أسنده . حققت له ما يريد . فضمني هو لصدره قائلا : كان قلبي يسع الكون ، و حاصرني وجهي في عيون البشر؛ فعشت سجينه . الآن سأستريح منه و ألقي ربي بقلبي . سارعت و أنا أقبل وجهه و يده أطالبته بالسماح . همس بأذني هو يسمح دموعي : أسمعني و لا تقاطعني . إن كان على السماح أطمئن ؛ فأنا أدركَ أنكَ ستسامحني . يجب عليك أولا أن تكون متسامحا مع نفسك ، و لا تحزن علىّ كثيرا . الدنيا كما ترى تتقلبُ كما الحرباء ألوانها كثيرة ، إن كان بداخلك سوادا ستحبوا إليك به . حافظ على نضارة ، و بياض ضميرك ، و أعلم أن الناس لن يحبونك و هم يخافونك . اجعلهم يحترمونك فيهابونك . أعرفُ أنكَ لن تنساني . و إن حكيت يوما عني فحكي بلساني، و استخدم و سامة ظاهركَ و عذوبة و جداني . سمعت نقطة حرس الحدود القريبة صوت الطلقات النارية ؛ فسارعت إلى مطاردت المركبين . بعد ساعات لفظَ البحر بضاعتهم و أموالهم محمولة في عوامات ، فقبلها من قبلها ، و سلمها للحرس من سلمها . اقاموا له بعد أيامٍ مقاما يليق بثرائهم الجديد . رحمكَ الله لسان عذوبتي‏.
 0  0  985