حوار مع المفكر والأديب الشاعر المبدع الدكتور فاضل الكعبي في رؤى وطروحات فكرية جديدةأجرت الحوار : د . مديحة براوي :
حوار مع المفكر والأديب الشاعر المبدع الدكتور فاضل الكعبي في رؤى وطروحات فكرية جديدة :
لا أفكر إلا بما هو في فرادة هذا التفكير ومن صنعه الجديد .
لا يشغلني التوصيف والمسميات أكثر من الإبداع ومنجزه الذي يستحق التوصيف به .
يهمني دائماً أن أخلق الجديد والمبتكر في عوالم الإبداع قبل أي شيء آخر .
أجرت الحوار : د . مديحة براوي
يوصف بتوصيفات عديدة خلقت له مرجعية فكرية وفنية واسعة في عوالم الكتابة والإبداع والنقد والفكر التربوي الموجّه لثقافة الأطفال وأدبهم ، إذ أن سيرة الذاتية ما شاء الله حافلة بالمهمات والانجازات الكبيرة ، فهو المفكر ، والكاتب ، والأديب ، والناقد ، والشاعر ، والقاص ، والروائي ، والكاتب المسرحي ، والناقد ، والباحث ، وهو بكل هذه التوصيفات له منجز إبداعي منشور أخذ مجاله الواسع إلى البحث والدراسة والاستشارة العلمية ، حتى أصبح بذلك مرجعا مهماً لمجمل قضايا ومسميات ثقافة الأطفال وأدبهم ، إنه الكاتب المفكر والأديب والناقد والباحث الدكتور فاضل الكعبي صاحب التجربة الطويلة في الكتابة للأطفال وعن الأطفال والتي أمتدت لسنوات من الخبرة تصل إلى الخمسين عاماً ، حيث أصدر خلالها أكثر من 200 كتاب في الإبداعي الشعري والقصصي والمسرحي والروائي إلى جانب اصداره لأكثر من ثلاثين كتاباً علمياً في الدراسات المتخصصة التي تعد الآن من المراجع المهمة في أدب ومسرح وثقافة الأطفال على المستوى العربي والدولي ونال العديد من الجوائز العربية والدولية من بينها جائزة عبد الحميد شومان في الدراسات النقدية عام 2010 وجائزة تازة في الكتابة المسرحية للطفل عام 2015 وغيرها كما تم اختياره خبيراً ومحكما في العديد من المسابقات والجوائز العربية وتم اختياره مستشارا وعضوا في العديد من اللجان العلمية المحكمة منها اختياره عضواً في مجلس خبراء الالكسو في خدمة الطفولة قبل مدة ، وشغل من قبل رئاسة تحرير مجلة الطفولة المتخصصة وأكثر من مجلة للأطفال وشغل منصب رئيس رابطة أدب الأطفال في العراق وأمين سر الجمعية العراقية لدعم الطفولة وغيرها من مناصب ولجان أخرى عديدة جعلت منه مرجعاً بكل ذلك بعد أن أنجز منجزاً فكرياً وبحثاً قيماً صار مصدراً ومرجعاً علمياً لعشرات الدراسات والأبحاث العلمية الأكاديمية في العالم العربي وعلى المستوى الدولي الإبداع ، ويسرنا هنا أن نلتقي ونتحاور مع المفكر والأديب الكاتب الكبير الشاعر والناقد الأستاذ فاضل الكعبي .
بداية هل تحدثنا عن أثر الظواهر الأدبية وتأثيرها عليك وعلى وعيك في سعة التجربة الإبداعية والعلمية والتي دفعتك إلى أن تكون بهذا المستوى الإبداعي وهذه الخبرة المنهجية الراسخة خصوصاً في مجال الدراسة والنقد إلى جانب الإبداع ؟
في البداية كانت هناك ظواهر عديدة في هذا الأدب لفتت انتباهي هي ظاهرة التجديد وارتباك هذا التجديد وقلقه في عوالم الكتابة للأطفال ، وما شاب ذلك من أوجه الصراع الحاصل بين الجديد والقديم من أدب للطفل ، وكذلك البحث عن رؤية فكرية وأسس علمية ومعايير نقدية واضحة ودقيقة يمكن أن ينطلق منها أدب الطفل في منطلقاته العصرية التي جرى فيها لترصين وجوده وهويته الفنية ، ومن ثمَّ الانطلاقة الواثقة لإيجاد أدب حقيقي وخلاق وواثق ومخلص للطفل العربي ، هذه بداية الرؤية والمنطلق الأول في هذا المسار ، كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، وقد تبع ذلك منطلق النظر والتعمّق في منتج حالتين ابداعيتين راسختين ، هما ظاهرتان بارزتان في أدب الطفل العربي خصوصاً على المستوى الشعري وريادتهما في هذا المجال ، تجربة سليمان العيسى وتجربة أحمد شوقي ، وما كنت قد لاحظته في هاتين التجربتين الرائدتين المهمتين من بعض الصعوبات والتعسّر في الكتابة للطفل ومخاطبته من ناحية اللغة والأسلوب ، ولدى دراسة التجربتين والبحث فيهما بتعمق وجدت أن الشاعر الكبير سليمان العيسى قد حسم أمره في ذلك عندما كشف بنفسه تلك المواقع في بعض كتاباته وقد برّرها تبريراً منطقياً وسلساً ليبقى هكذا " رحمه الله " إلى يومنا هذا قمة إبداعية شامخة في أدب الطفل العربي يقرأ أدبه الجميل والسلس ويتغنّى به الطفل العربي أينما كان حديثاً والآن وفي المستقبل حتماً ، غير أن ما كتبه أمير الشعراء في وقتها من أدب شعري للطفل ظلّ إلى يومنا هذا على حاله تكثر في مساحة من منتجه الكثير من المفردات والجمل الصعبة التي لا يستسيغها الطفل ولا يقرّها أدبه في أبرز سماته ، وهكذا ؛ من بعد ذلك ، انطلقت في الكتابة النقدية ، وفي الكتابة الفكرية والعلمية لأدرس وأبحث في كل ظاهرة وحالة ومعيارية توجد الأدب الحقيقي للطفل وترسّخ من قيمته وقيمه ومعاييره المتجددة والخلاقة .
لهذا نطلب من حضرتك أن توضح لنا وللقرّاء الكرام في أي مسار من جملة المسارات الإبداعية والعلمية التي تشتغل عليها ويهمك أكثر، فنحن نعرف شخصية المبدع الأستاذ فاضل الكعبي متعدد الاتجاهات والمسارات الإبداعية، فأنت أديب، شاعر، وقاص، وكاتب مسرحي، وروائي، تكتب للأطفال ولليافعين، وكذلك مفكر وناقد وباحث خبير متخصص بأدب الطفل وثقافته ولك منجز بارز في كل ذلك، حدثنا عن ذلك وعن أيها الأقرب إليك؟
حقيقة أنا أجد نفسي في كل تلك التوصيفات التي وصفتها ، وحسب الحالة التي تتطلّب مني الوجود والتواجد والحضور في الكتابة والقول والإدلاء والخطاب ، فأكون فيها ومنها كما يجب أن تكون وأكون ، هكذا أنا في الموهبة المتعددة الاتجاهات والقدرة ، فللشعر عندي سعته حين تحين حالته ، فأكون معه حينما يتطلب أمر الاستجابة له ويطلبني لجولة في عوالمه ، حالما يهبط عليَّ وحيه ويستفزّني وأستشعره ، لحظة يتلبّسني الهامه وهيامه ، وحينها أكون شاعراً ، وحينما تحاصرني عوالم القص لتستنهض مخيّلتي بهوس فكرة ما ، انهض معها لأستنطقها كما يجب السرد قصَّاً وروياً استحسنه في نفسي قبل أن استحسنه وأحسّنه وأجوّده على ورق الكتابة بهيئة القصة أو المسرحية أو رواية اليافعين ، كل ذلك عندي يمرُّ بمراحل متعددة في نفسي ، ومخيلتي ، وتفكيري حتى يأخذ مجاله الطبيعي إلى أديم الكتابة ومنطوق روحها وجمالها المشوّق والساحر؛ شكلاً ومحتوى ، وهكذا الحال مع الطبيعة الإبداعية مع تجنيسات الإبداع وحالاته الأخرى .
مع ذلك لابد من مجال إبداعي يكون الأقرب والأكثر هوساً في مخيلتك وفي تفكيرك بين كل ذلك ؟
لا أكتمك الأمر في ذلك ، فإنَّ أكثر المجالات هوساً من بين ذلك عندي هو مجال المقارنة والتجدد ، لكي لا أكرر ما سبق مني من كتابة ، واستنسخ ما مررت به من قبل ، هذا هو ديدن الإبداع ونبضه عندي باختصار شديد ، خصوصاً في مجال الفكر والتفكير بالبحث والنقد ، فهذا عالم آخر يحيطني من كل الاتجاهات ، ويستحوذ على المساحة الأكبر من رؤيتي وتفكيري وانشغالاتي ، كوني على الدوام لا أفكر إلا بما هو في فرادة هذا التفكير ومن صنعه الجديد ، إذ لا أريد أن أكون نسخة مكرَّرة من الآخرين ، فأكتب كما يكتبون ، وينقد كما ينقدون ، ولا تهمني المناصب والمسميات التي التي قد تخلق الوجاهة عند البعض وبنظر البعض لكنها لا تخلق المبدع .
وبمنظورك من هو المبدع الحقيقي وكيف تراه وترى نفسك في ذلك ؟.
أنظر إلى المبدع الحقيقي من خلال انجازه ، نعم المبدع الحقيقي يبان ويقرأ وينظر إليه بانجازه ومنجزه لا بمظهره ، المناصب الإدارية والمسميات المادية والاجتماعية ما هي إلا توصيفات يمكن أن يتصف بها أناس لا علاقة لهم بالإبداع لكن المبدع الحقيقي هو من يضيف لكل ذلك اضافة ابداعية تحسب له ويقدر من خلالها ، أما بالنسبة لي فيهمني التوصيف الإبداعي أكثر من أي توصيف في مملكة الكتابة والإبداع ، وهذا ما يجب أن يكون عليه المبدع الحقيقي وهو يسعى إلى ايجاد بصمته الإبداعية قبل أي بصمة أخرى ، لذلك يشغلني دائماً ويهمني أن أخلق الجديد والمبتكر قبل أي شيء آخر في عالم الكتابة والإبداع أما التفصيلات الأخرى فهي تأتي أو لا تأتي فهي لا أفكر فيها في أغلب الوقت ، إذ أن المبدع الحقيقي بما ينجزه من المنجز لا بما يظهر به هنا وهناك ، لذلك أحرص على أن يكون ما أنتجه في مجال البحث والدراسة ذات قيمة مهمة ليشكل بذلك إضافة تذكر لأدب الأطفال وثقافتهم في عالمنا العربي .
قبل مدة كنت قد أشرت في حوار مهم أجري معكم عن أدب الأطفال شاهدناه واستمعنا إليه في إحدى القنوات العربية، ومن بين ما ذكرته حضرتك في هذا الحوار هو موضوع (القصة العلاجية) التي اشتغلت عليها في عدة قصص كتبتها وأصدرتها، هل لك أن تحدثنا عن ذلك؟
نعم ، إنَّ من بين المسائل الأساسية والهامة التي أشتغل عليها في البحث وفي الإبداع هي المعالجة بكافة اتجاهاتها ومسمياتها ، وخصوصاً في الإبداع القصصي ، الذي حرصت في مساحة واسعة منه على أن يكون نص القصة نصاً علاجياً من الناحية النفسية والاجتماعية والحسية والسلوكية والتربوية ، فهو بذلك يستعرض أمام الطفل المشكلة ويعمل على ايجاد العلاج أو المعالجة لها ، وقد تعرضت لكثير من المشكلات والظواهر والعقد والحالات التي تواجه الطفل ، خصوصاً الطفل العربي ، داخل الأسرة ، أو في نطاق المحيط البيئي وعلى أكثر من صعيد في الحياة !.
نفهم من هذا كما أشرت حضرتك أن لأسلوب القصة العلاجية طريقته الخاصة التي تختلف عن الأسلوب التقليدي في كتابة القصة؟
بالتأكيد، لهذا لأسلوب القصة العلاجية طبيعته وطريقته الخاصة بالمعالجة التي لابد تقف خلفها في الكتابة والمعالجة خبرة نفسية ورؤية علمية وحياتية واضحة وتطلّع واثق وأكيد من الوصول إلى النتائج المرجوة إلى جانب المتطلبات الفنية الأخرى في الكتابة، والحمد لله حققت النتائج الجيدة في هذا المجال ، فقد تعرّضت لمشكلة فراق الوالدين عن بعض في مشكلة الطلاق ومعاناة الطفل في ذلك عبر قصة ( ماما .. بابا لِمَ لا نعيشُ في بيتٍ واحد؟)، وعالجت مشكلة التدخين وأثره على صحة الأطفال في قصة (وعد جدي)، وفي قصة ( أبي أمي .. توقّفا ) عالجت مشكلة المشاحنات التي تحدث بين الأب والأم وأثرها على الطفل ، وعالجت مشكلة الإدمان على الأجهزة الالكترونية وتأثيراتها الخطيرة من خلال قصة ( يوميات آيباد ) ، وعالجت حالة الفقد ومخلفاتها في قصة ( رسالة مريم ) ، وفي رواية اليافعين ( في بيتنا زهايمر ) تعرضت لهذا المرض الخطير بمعالجة أدبية واجتماعية وعلمية وطبية واضحة ، وغيرها من قصص أخرى تنحو منحى العلاج في أسلوب القصة والأدب والذي أثبت فاعليته الأكيدة على وجهته للطفل .
يرى المتابع لأدب الطفل في الوقت الحاضر، ضعف النقد أو غيابه عن أدب الأطفال في الوطن العربي، ترى ما هي أسباب ذلك؟
أؤيد ما ذهب إليه المتابع ، هذا أمر واقعي حقيقة ، فهناك ضعف أكيد في النقد يصل أحياناً إلى حد الغياب الكامل للنقد في أدب الطفل العربي ، هناك غياب لهذا النقد لأنه يختلف غاية الاختلاف عن النقد في أدب الكبار ، ناقد أدب الأطفال يختلف عن ناقد أدب الكبار ، إذ أن متطلبات ومعايير العملية النقدية لأدب الأطفال تتطلب العديد من المتطلبات والمعايير والمقاييس والأسس والمنطلقات التي يتطلب أن تكون في قدرة المتصدي لهذه العملية ، وهي عملية ليست باليسيرة من نواح متعددة فنية ولغوية ونفسية وتربوية وأدبية وغيرها ، وكثيراً ما نقرأ بعض الكتابات التي تقدم نفسها على أنها كتابات نقدية لأدب الأطفال ، وما هي إلا انطباعات وتحليلات كثيراً منها أن يقترب بعض الشيء من أدب الطفل ونقده ، لكنه في واقع الأمر لا يستجيب لحقيقة ما تتطلبه العملية النقدية في أدب الأطفال ، لهذا تجد الغياب الواضح للنقد الحقيقي عن أدب الأطفال ، أما الشح الذي نلاحظه الآن في أدب الأطفال ، فليس هنا من نقّاد متخصصين في أدب الأطفال إلا ما ندر لبعض الأسماء في هذا القطر العربي أو ذاك ، وفي كثير من الأحيان نقرأ هنا وهناك بعض كتابات متناثرة على أنها نقود لأدب الأطفال غير أنها تظل مجرد كتابات تقليدية لم تضيء المنطقة المخفية ولا المنزوية ولا حتى المعتمة من هذا الأدب ، ولهذا لا تشكّل شيئاً لأدب الأطفال كونها لم تحرّك الساكن أو تجلب الانتباه لهذا الأدب ، من هنا نجد الممارسة النقدية في أدب الطفل ليس بالأمر اليسير ، كونها تتطلب العديد من المتطلبات والقدرات والمعايير والضوابط التي لا تتوفر عند البعض ممن يحاول دخول هذا المعترك ، وقد سعيت في هذا الاتجاه لتأسيس قاعدة نقدية خاصة بأدب الأطفال حصراً ، عبر إيجاد معايير نقدية خاصة ومتخصصة بأدب الأطفال ، بعد دراسة مستفيضة ومعمّقة لعديد من التجارب الإبداعية المتميزة في أدب الطفل العربي والعالمي وقد خلصت من ذلك مجتهداً بدراسة هي تعتبر الأولى التي تؤسس وتنظّر لمعايير نقدية متخصصة بأدب الأطفال وذلك في كتابي الموسوم : ( أدب الأطفال في المعايير النقدية : دراسة في الأسس والقواعد الفنية والنقدية لفن الكتابة للأطفال ) والصادر بطبعته الأولى في الإمارات عام 2013 .
من خلال ما نجده في تجربتك الإبداعية والعلمية والفكرية من خبرة طويلة تكاد تقارب الخمسين عاماً في الكتابة، كيف تقيّم أدب الأطفال في الوطن العربي قديماً وحديثاً؟
نشأ أدب الأطفال قديماً على استحياء ولأهداف وأغراض خاصة ومحددة وسار متعرجاً نوعاً ما في طريقه إلى الطفل ، وقد شابته بعض الشوائب الواضحة في لغته وفي أساليبه وفي أفكاره ، وقد استعاب منه بعض كتبته ، مع أن هذه الحالة هي حالة عالمية كان قد مرّ بها أدب الطفل العالمي ، فكثير من كتّابه لم يكتبوا أسماءهم الصريحة وتواروا خلف أسماء مستعارة ، غير أنهم فيما بعد كتبوا بصريح الاسم وبثقة واضحة ، وهكذا الأمر مع أدب الطفل العربي الذي مرَّ بمراحل متعددة من النهوض والكبوات ، ورافقته الكثير من الشوائب التي نرى بعضها غير صحيحة وغير سليمة إلا أنه وضع لنا قواعد وأسس جعلت أدب الطفل الحديث يرتكز عليها لينطلق منها في التصحيح والتجديد وإيجاد الرؤى والمنطلقات الفنية والفكرية الصحيحة لأدب الطفل حتى وصل الأمر إلى أدب الطفل المعاصر الذي راح يؤسس قواعده ويبني بناه وأساليبه على رؤى عصرية ليثبت بذلك هويته الفنية الصحيحة كظاهرة أدبية لها وجودها البارز في الوطن العربي ، غير أن أدب الطفل العربي في وقتنا الحاضر يعاني الفوضى ، وعدم الركوز في كثير منه على مرتكزات فنية وأسلوبية وعلمية واضحة ، بعد أن دخل ميدانه عشرات الطارئين الذين استسهلوا عملية الكتابة للأطفال ولم يستشعروا بخطورة هذه الكتابة وحقيقة رسالتها الإنسانية والأدبية ، التي لا يدركها ويصل إلى حقيقتها الموضوعية والفنية إلا من خَبِرَ هذه الكتابة وأدرك عوالمها واستجاب لمتطلباتها وانطلق لغاياتها الأساسية لخلق وإيصال الأدب الجاد والحقيقي للطفل ، ولكن للأسف الشديد نلاحظ رقعة الفوضى وآثارها تزداد في كل يوم حدَّة وتتسع في مساحة أدب الطفل العربي ، حتى باتت هناك الكثير من الضبابية في النظر إلى هذه المساحة وتشخيص الصائب عن الخائب فيها .
ترى ما سبب هذه الفوضى بنظركم ، وكيف يمكن معالجتها ؟.
هناك أسباب عديدة لوجود هذه الفوضى واستفحالها في عالم أدب الطفل العربي ، وأول الأسباب غياب الرقابة الحقيقية على ما يكتب وينشر من أدب للطفل ، خصوصاً في ظل وجود وسائل الاتصال والنشر المفتوح أمام الجميع ، فنجد كل من يحمل ورقة وقلماً بات يكتب للطفل ، ويدعي انتسابه لأدب الطفل ، وقد وجد عشرات المواقع والصفحات الالكترونية التي تعلن عن نفسها كراعية لأدب الطفل فتنشر كل ما يصلها قصة أو قصيدة لا تحمل أدنى المواصفات الفنية للكتابة الصحيحة ، والأخطر في هذا الأمر أن بعض رعاة هذه الصفحات راح يُنظّر كيفما شاء في أدب الطفل ويضع نفسه مرجعاً فيه دون وجه حق ، وبات كل من نشر قصة أو قصتين أن يجعل من نفسه خبيراً في أدب الأطفال ويطالب الكتّاب بصوت عالٍ أن يكتب كذا وكذا ، وهناك من راح يقيم الورش الفنية والعلمية ويفتح الدورات في آليات الكتابة للأطفال وهو أو هي لم يصدر في المنتج سوى قصة أو ثلاث ولم تكن له من الخبرة أي حد معقول ، ومن الأسباب الأخرى غياب النقد الحقيقي عن أدب الأطفال ، وكذلك وجود النشر التجاري يعد من بين الأسباب التي ساعدت على اتساع مساحة الفوضى في عوالم أدب الطفل العربي ، إذ أن هناك العديد من دور النشر التي ترحب بالنشر المجاني لمن هبَّ ودبَّ في عوالم الكتابة ، فهي هنا تعتبر هذا النشر مكسباً لها ولا يهمها مدى استجابة هذا العمل أو ذاك للمعايير الفنية ولعناصر الجودة والحسن ، وليس من المهم أن يكون بهذا القدر والمهم أنه مقبول نوعاً ما ، أما المعالجة فالأمر فيها يطول ويطول وقد بحَّ صوتنا بالحديث عنها ، وقد كتبنا عنها وبحثنا في أسسها ومتطلباتها في أغلب كتبي ودراستي ، وتحدثت عن ذلك في أكثر من ملتقى ومؤتمر وندوة وحوار ، كان من بين ذلك ما بحثت فيه وكتبته في عشرات الدراسات والأبحاث الفكرية والنقدية التي نشرتها في عشرات المجلات العربية المحكّمة والفكرية والأدبية ، وكذلك في عشرات الكتب التي أصدرتها على اختلافها ، وفي المقدمة منها كتاب : ( المداخل التربوية ومرتكزات التجانس المعرفي في ثقافة الأطفال ) وكتاب ( العلم والخيال في أدب الأطفال ) وكتاب ( كيف نقرأ أدب الأطفال ) وكتاب ( سايكولوجية أدب الأطفال ) وكتاب ( المعايير النقدية في أدب الأطفال ) وكتاب ( أدب الأطفال بين الظاهر والمسكوت عنه ) وكتاب ( قراءات نقدية في أدب الأطفال ) وغيرها ، من كتب أخرى بنفس الاتجاه ، ومعظم هذا الكتب صدرت بطبعات متعددة بعضها تجاوز الطبعة الثالثة ولكن أغلب هؤلاء لا يقرأ ولا يتابع .
هناك سؤال يستحضرني الآن ويفرض نفسه هنا، من وجهة نظركم الخبيرة، ترى أين موقع النقد من الدراسات الفكرية في أدب الأطفال، وكذلك الدراسات الأكاديمية العليا للماجستير والدكتوراه في أدب الطفل في مختلف الجامعات العربية؟
المشكلة هنا تظل قائمة ، وإشكالاتها تتواصل في إثارة الجدل والنقاش ، ولكن مازال أمرها بلا حلول ، إذ نلاحظ للأسف الشديد أن أغلب هذه الدراسات تأتي استنساخاً لسابقاتها ولم تأت بجديد يذكر ، فالجديد منها يكرّر ما قاله السابق وهكذا ، أما الدراسات العليا على اختلافها وحصرها في مجال أدب الأطفال على وجه الخصوص ، في العديد من جامعاتنا العربية ، فهي الأخرى ، نادراً ما نجد فيها الجديد ، إذ يأتي الطالب فيها لينطلق من نفس الأسس التي بنيَ عليها السابقون دراساتهم ، مع اختلاف العنوان أحياناً ، وذلك لأن أغلب هؤلاء الطلبة لم يأت محصّناً بحصيلة ثقافية وعلمية واسعة عن أدب الأطفال إلا ما ندر ، فتأتي دراساتهم لتضاف إلى ما سبقها في التقليدية بناء وأسلوباً ، ولم نر فيها أيّ فتح لنقد جديد أو خلاصة خلاقة لدراسة ونقد أدب الطفل العربي ، والمشكل أن هناك من ينظر إلى البعض من أصحاب هذه الدراسات من منظوره الضيقة على أنهم خبراء في أدب الطفل ، وهم في حقيقة الأمر ، لم يتجاوزوا بعد حدود معرفتهم الدراسية المحددة بأغراضها الخاصة ، وهذا ما لمسناه وتحققنا منه في حقيقية الواقع لدى البعض ممن قدمنا لهم العون ووسعنا لهم الطريق في هذا الاتجاه من طلبة الدراسات العليا في أدب الأطفال .
في واقع أدب الطفل الحالي هناك ما يشبه التقليد أو بعض التكرار في بعض المنعكسات الموضوعية والفنية والثقافية لأدب الطفل العالمي في جوانب من منتج أدب الطفل العربي، كيف ترى هذا الأمر؟
هذا سؤال مهم وخطير في آن واحد ، ويحتمل إجابات متعددة الأوجه والاتجاهات لكنني سأنحو منها نحو الأقرب إلينا ، وهو ما نجده في كثير من منتجات أدب الطفل العربي الصادرة هنا وهناك ، والتي يأتي أغلبها تقليداً لما هو عليه أدب الطفل العالمي في هذا البلد أو ذاك ، بل وحدا بالبعض إلى التقليد حتى بالرسوم ، أنا هنا لا ألوم الكاتب أو الرسام العربي فحسب ، بل نسبة اللوم الأكبر تقع على الناشر الذي يطلب من الكاتب والرسام ذلك ، وفي ظنه أنه يتماهى أو يتجاوب مع الأدب العالمي في هذا ، وحتى الترجمة حين يترجم من أدب الطفل العالمي إلى العربي تجده يصور حتى تفاصيل بيئة المجتمع الأوربي وطبيعته الثقافية ، وفات هؤلاء أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة وطبيعته الخاصة التي تميّزه عن غيره من المجتمعات ، وما مجتمعنا العربي إلا واحد من هذه المجتمعات له خصوصيته الثقافية والقيمية والإنسانية وله إبداعه وأدبه الذي لا يقل بالأهمية والقيمة في كثير منه عن غيره من أدب الشعوب !.
ما سبب ذلك ودواعيه من وجهة نظركم المتخصصة؟
للأسف الشديد هناك من يعمل على تصغير أدبنا العربي وتكبير أدب الآخرين حتى من بعض كتّابنا ، وهذا الأمر باعتقادي لا يمت بصلة لا إبداعية ولا ثقافية لمجتمعنا ، فنجد هناك من يبهرهم المنتج الأجنبي ويسعون إلى تمجيده ولا يبهرهم المنجز الباهر في أدبنا ، وهنا تكمن عقدة البعض ونقص وعيهم ونظرتهم ، فأدب الطفل العالمي له ما له وعليه ما عليه ، مثلما لأدب طفلنا العربي له ما له وعليه ما عليه ، ولا يمكن ؛ وليس من الصحيح أن يقلّد هذا ذاك ويخرج كما هو يخرج ، اذن أين التميز والاختلاف ، فجمال التذوق ومتعته ودهشته تكمن في كثير من الحالات بالتمايز والاختلاف والمغايرة ، لذا أتمنى أن نحترم خصوصيتنا ومنتجنا وأدبنا ، خصوصا المتميز البارع والرائع منه وننظر له بهذا المنظور في المعطى وفي الصورة ، ولا نعطي للآخر أكثر مما يستحق فنمجد حتى العادي منه ونقدّمه على المبدع من منتجنا ، علينا أن لا نقلد ما يقوم به أدب الطفل العالمي وننقل صورة نقلاً أعمى إلى أدب طفلنا ، هناك مخاطر ومنزلقات لا عد لها في هذا الاتجاه ، لا أريد الإشارة أكثر من ذلك ، ويكفينا النظر إلى ما يسود أدب الطفل العالمي في بعض منتجاته اليوم ، وأبسطها التلميح والتصريح علانية وبين السطور إلى ما لا يتناسب وقيم طفلنا العربي ومعايير ثقافته ، ومن ذلك الترويج للمثلية والشذوذ والخروج من سلطة العائلة وردم الفوارق بين الذكر والأنثى وغيرها الكثير، مما لا يمكن قبوله في أدب الطفل العربي وثقافته ، مع أن هناك من يحاول أن يسرّب بعضه إلى طفلنا سواء بالترجمة أو بالكتابة التي تنشر بلا رقابة وبلا حساب وبلا وعي بما يجب الانتباه إليه وتدارك الوقوع فيه من منزلقات ومخاطر في مخاطبة الطفل خطاباً أدبياً وثقافياً محسوب الأثر والتأثير والنتائج في مخيلة وفي المنظومة القيمية للطفل العربي ، فهناك كم من التحديات القيمية والأخلاقية والسلوكية والثقافية والتربوية وحتى الفنية والأسلوبية فيها تجابه أدب الطفل العربي ورسالته الحاضرة البليغة وعلى القائمين على هذه الأدب والمؤدين رسالته الحرص والدقة والنباهة والاخلاص والتحدي لمجابهة هذه التحديات وإثبات قدرتهم وقدرة أدب الأطفال العربي على اثبات وجوده ومقدرته وإيصال رسالته أمام هذه التحديات الخطيرة في العصر التكنولوجي متعدد المسارب والاتجاهات والمخاطر .
في الوقت الحاضر نلاحظ العديد من التحديات التي يواجهها الطفل العربي وأدبه في الواقع التكنولوجي المعاصر، وما يشكّله ذلك من آثار وتأثيرات خطيرة لا عدَّ لها ولا حصر لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع وما تتركه من مؤثرات ونتائج على وعي الطفل وعلى عقله وثقافته وعلى وجود أدب الطفل بشكل عام، فهل تعتقد بنظركم أن لأدب الطفل العربي القدرة على المجابهة واثبات دوره المطلوب؟
كما أرى وأعتقد ، بكل تأكيد ، نعم ، بإمكان أدب الطفل العربي وكاتبه الحقيقي والمبدع والخلاق والأصيل ؛ إذا ما شحذ همّته وأخلص في تأدية واجبه المخلص تجاه رسالته ، وارتقى بأساليبه التعبيرية ، وأحسن إدارة أدواته الفنية في الكتابة ، وأجاد الاستخدام الأمثل لمفرداته في التصوير والتجسيد الأكثر أثراً وبلاغة ودلالة ومهارة وتأثيراً في قدرات المتلقي وتمكّن من جذبه من اشعاعات القيم المضادة في المواقع الالكترونية إلى إشعاعات القيم المؤثّرة الصحيحة في إشعاعات ما ينتجه أدب الطفل العربي الخلاق ، وهذا الأمر حقيقة لا يحدث ويحقّق مراده ويصل أدب الطفل إلى أهدافه من دون معونة وإسناد المجتمع له ، خصوصاً من الآباء والأمهات والمعلمين ومن المثقفين العاملين في المجتمع ومن بحكمهم من الوسطاء بين الطفل وأدبه ، فلكل هؤلاء الدور الفاعل في هذا الاتجاه ، عبر لفت انتباه الطفل إلى أهمية التوجّه إلى منتج أدبه الحقيقي وتنبيهه إلى ما في المواقع الإلكترونية من منزلقات ومخاطر لا عد له ولا حصر على منظومته الأخلاقية والثقافية والتربوية والسلوكية ، ومن دون هذا لا يمكن لأدب الطفل أن يرقى ويرتقي بمستويات وبقدراته وبأساليبه في الوصول إلى مبتغاه وتحقيق غاياته وأهدافه .
هناك من يرى أن كاتب الطفل العربي ابتعد نوعاً ما عن واقع بيئته وعن قضايا مجتمعه وأمته ومتطلبات حاجات الطفل فيها، كيف ترى الأمر في ذلك؟
نوعاً ما ، ليس الجميع بنفس المستوى وبنفس النظرة وبنفس التفاعل ، وبنفس القدرة على النظر إلى هذه القضايا والزوايا التي ينظر منها ويأخذ بها إلى التجسيد ، ففي هذا الجانب هناك نوعان أو أكثر من الكتّاب ، هناك من تفاعل مع قضايا بيئته وواقعه وواقع أمته تفاعلاً حيّاً وسار للتماهي معها واستنطاقها في أساليبه التعبيرية وفي منتجه الإبداعي ، لكن ما نلاحظه في منتج هؤلاء أنهم ساروا وانطلقوا للتعبير والتجسيد بأسلوبين مغايرين ، الأول أتى مباشراً تسوده النمطية واللغة التقريرية التي تتقدّم فيها الأساليب التعليمية والتربوية الجامدة على الأساليب الجمالية والفنية المشوقة ، والتي لا تثير الطفل وتستثير حواسه وذائقته في التلقي ، أما الثاني وهو بنسبة أقل من الأول وقد أتى بعضها مشحوناً بالرموز التاريخية والاجتماعية والتراثية والشعبية وبأساليب تهويلية وخيالية مغرقة بالتضخيم والدلالات التي يعتقدها عناصر مشوقه ومثيرة وفاته أن ذلك لا يستثير الطفل المتلقي وقد يخرجه عن عالمه وعوالمه الواقعية التي يتطلب الاستجابة لها ولحاجات الطفل فيها بطرق وأساليب تقرّب الطفل وتشدّه إليها ولا تصعّب أمامه طرق الفهم والاستيعاب ، هذا من جانب ، من جانب آخر هناك كم من الكتابات التي كتبت وحسبت على أدب الطفل العربي لكننا لو أمعنا النظر فيها لأيقنا أنها كتبت لمجتمعات أخرى غير مجتمع الطفل العربي ، وذلك لأن أصحاب هذه الكتابات تجاوز قضايا أمته وبيئته وراح يُسقط ما في المجتمعات الأخرى من قضايا في كتاباته ، متناسياً ما في بيئة الطفل العربي من قضايا أهم وأكثر فاعلية ، وكان الأجدر بهذه الكتابات أن تتعايش مع منتوج هذه البيئة وانعكاساتها على وعي الطفل ومدركاته ، ولكن مع هذا ، نلاحظ هناك وعي فني وإبداعي واضح لدى العديد من كتّاب الطفل في الوطن العربي تجسَّدت لديهم الرؤية الخلاقة في استلهام قضايا الأمة والتماهي معها بروح إبداعية رائعة ، ومع محدودية المساحة التي يتحرّك فيها هؤلاء الكتّاب إلا أنها مساحة واضحة في لفت انتباه الطفل العربي إلى جانب مهم من قضايا أمته كالقضية الفلسطينية التي تتواصل في الضمير لإثبات الوجود والحق المستلب وغير ذلك .
شاعت في السنوات الأخيرة ظاهرة باتت واضحة للمتابع الدقيق لواقع أدب الطفل العربي ومنتجه الإبداعي، تلك هي ظاهرة التقليد التي نرى فيها البعض من كتاب وأدباء الأطفال يعمدون إلى تقليد بعضهم للبعض الآخر عبر تكرار الأفكار والمواضيع والأساليب وغير ها ، ترى ما دواعي ذلك وأسبابه من وجهة نظركم ككاتب وأديب وناقد وباحث متابع ومختص؟
هذه مشكلة كبيرة تسود أدب الطفل العربي في الوقت الحاضر ، حتى صارت ظاهرة ملفتة للنظر بشكل فاضح ، وهذه الظاهرة موجودة باتساع كبير وتتسع مساحتها في كل يوم بشكل معيب وغريب ومثير للاستغراب والدهشة والريبة ، وهي ظاهرة خطيرة فيها الكثير من الشبهة ، وتعكس حالة معيبة على أدب الأطفال ، حيث بات التكرار فيها حتى بالعنوان ، وحدث معي هذا كثيراً إذ أجد بعد مدة من الزمن أشهر أو سنوات أن هناك عنوان قصة لفلان وفلانة مشابهة لعنوان قصة لي ، وقد فاتحت دار النشر بذلك وأحيانا الكاتب أو الكاتبة نفسها ولكن من دون جدوى ، وهذا الأمر حقيقة يعبر عن نضوب الموهبة والقدرة والخيال عند البعض ، ومحاولة البعض الآخر إلى سرقة عنوان أو فكرة أو حتى محتوى كاتب آخر ، الأمر هنا يحتاج إلى معالجة سريعة تتدخل فيها مؤسسات حفظ الملكية الفكرية ومراقبة ومحاسبة دور النشر التي تسمح بذلك ، وفيما سبق لي كنت قد أشرت إلى هذه القضية الخطيرة والحسّاسة خصوصاً في مسألة الشعر وما يحصل فيه من تكرار وتشابهه خطير لدى العديد من الشعر، وذلك في كتابي الموسوم : ( المداخل التربوية ومرتكزات التجانس المعرفي في ثقافة الأطفال ) الصادر بطبعته الأولى في بغداد عام 1999 وبطبعته الثانية في دمشق عام 2013 ، ولهذا نشدّد هنا وبإصرار على أهمية أن تكون هناك رقابة مشدَّدة جداً.
من وجهة نظركم المتخصصة بوصفكم مرجعاً في أدب الأطفال العربي، ترى ما هي حدود نظرتك إلى قضية الريادة في أدب الطفل العربي في الوقت الحاضر، هل هناك بلد عربي بعينه يمكن أن تعتبره رائداً في أدب الطفل الآن؟
لا يمكن الآن تحديد بلد معين دون آخر في هذا الاتجاه ، يمكن أن يصح هذا قديماً في الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي فنقول أن البلد هذا رائد في أدب الأطفال أما الآن فالأمر اختلف تماماً ، حتى توزّعت الريادة وسمات الرواد في أكثر من بلد عربي ، لكن الثابت في المنظور الفني والنقدي لأدب الطفل العربي أن هناك عمالقة في الكتابة للطفل وهم من رواد هذا الأدب بالدرجة الأولى في مصر وسوريا والعراق والأردن ولبنان والجزائر وفي بقية الدول العربية تبرز أسماء مبدعة هنا وهناك بسبب ما قدمته من منجز واضح في أدب الأطفال .
ما هي الاصدارات الأدبية والعلمية في النقد أو الشعر أو القصة والتي تراها مهمة في أدب الأطفال وثقافتهم حالياً، وتشكّل إثراء للمكتبة العربية سواء لك أو لغيرك؟
عديدة هي الإصدارات في هذا الاتجاه ، خصوصاً في مجال الابداع ، ولا أتحدث عن إصداراتي في هذا الجانب ، وأترك أمرها للنقاد الآخرين وللقرّاء ، والذين اعتمدوا اصداراتي العلمية والنقدية في الدراسات كمراجع في هذا المجال على المستوى العربي والدولي ، وغير هذا فالتقييم أتركه للآخرين ، أما إصدارات الآخرين من المبدعين الحقيقيين والمخلصين والتي لفتت نظري في الشعر والقصة فهي اصدارات مهمة للغاية يصعب حصر أسماء مبدعيها هنا وقد ذكرت أهم الأسماء المبدعة في شعر الأطفال العربي في دراسة مهمة لي ستصدر خلال وقت قريب بعنوان ( شعر الأطفال – أغنية الأطفال : التقارب وإشكالية التلقي ) وهي دراسة علمية فنية ونقدية تطبيقية مهمة تتناول أبرز التجارب الشعرية العربية في الوقت الحاضر ، ولي دراسة أخرى صدرت قبل سنوات في القاهرة في مجال القصة والشعر والمسرح وفي بعض الظواهر الأدبية في النقد على المستوى العربي تناولت بعض الأسماء في هذا الاتجاه في الجزء الأول من كتابي النقدي الموسوم ( قراءات نقدية في أدب الطفل ) الصادر في القاهرة عام 2020 وسأتناول أسماء قصصية وشعرية ومسرحية أخرى في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، أما على مستوى النقد للآخرين فالإصدارات في هذا المجال شحيحة ، وبعضها يأتي تكراراً لاستنتاجات سابقة لآخرين ، وبعضها الآخر تقليدياً في تناوله وفي طروحاته التي لا تخلو من محاباة ومجاملات على حساب الموضوعية والحقيقة ، وهناك اصدارات أخرى في غاية الدقة والأهمية والموضوعية لكنها تعدّ بأقل من الأصابع أمام كم من اصدارات أخرى لا إضافة ولا جديد فيها .
لا أفكر إلا بما هو في فرادة هذا التفكير ومن صنعه الجديد .
لا يشغلني التوصيف والمسميات أكثر من الإبداع ومنجزه الذي يستحق التوصيف به .
يهمني دائماً أن أخلق الجديد والمبتكر في عوالم الإبداع قبل أي شيء آخر .
أجرت الحوار : د . مديحة براوي
يوصف بتوصيفات عديدة خلقت له مرجعية فكرية وفنية واسعة في عوالم الكتابة والإبداع والنقد والفكر التربوي الموجّه لثقافة الأطفال وأدبهم ، إذ أن سيرة الذاتية ما شاء الله حافلة بالمهمات والانجازات الكبيرة ، فهو المفكر ، والكاتب ، والأديب ، والناقد ، والشاعر ، والقاص ، والروائي ، والكاتب المسرحي ، والناقد ، والباحث ، وهو بكل هذه التوصيفات له منجز إبداعي منشور أخذ مجاله الواسع إلى البحث والدراسة والاستشارة العلمية ، حتى أصبح بذلك مرجعا مهماً لمجمل قضايا ومسميات ثقافة الأطفال وأدبهم ، إنه الكاتب المفكر والأديب والناقد والباحث الدكتور فاضل الكعبي صاحب التجربة الطويلة في الكتابة للأطفال وعن الأطفال والتي أمتدت لسنوات من الخبرة تصل إلى الخمسين عاماً ، حيث أصدر خلالها أكثر من 200 كتاب في الإبداعي الشعري والقصصي والمسرحي والروائي إلى جانب اصداره لأكثر من ثلاثين كتاباً علمياً في الدراسات المتخصصة التي تعد الآن من المراجع المهمة في أدب ومسرح وثقافة الأطفال على المستوى العربي والدولي ونال العديد من الجوائز العربية والدولية من بينها جائزة عبد الحميد شومان في الدراسات النقدية عام 2010 وجائزة تازة في الكتابة المسرحية للطفل عام 2015 وغيرها كما تم اختياره خبيراً ومحكما في العديد من المسابقات والجوائز العربية وتم اختياره مستشارا وعضوا في العديد من اللجان العلمية المحكمة منها اختياره عضواً في مجلس خبراء الالكسو في خدمة الطفولة قبل مدة ، وشغل من قبل رئاسة تحرير مجلة الطفولة المتخصصة وأكثر من مجلة للأطفال وشغل منصب رئيس رابطة أدب الأطفال في العراق وأمين سر الجمعية العراقية لدعم الطفولة وغيرها من مناصب ولجان أخرى عديدة جعلت منه مرجعاً بكل ذلك بعد أن أنجز منجزاً فكرياً وبحثاً قيماً صار مصدراً ومرجعاً علمياً لعشرات الدراسات والأبحاث العلمية الأكاديمية في العالم العربي وعلى المستوى الدولي الإبداع ، ويسرنا هنا أن نلتقي ونتحاور مع المفكر والأديب الكاتب الكبير الشاعر والناقد الأستاذ فاضل الكعبي .
بداية هل تحدثنا عن أثر الظواهر الأدبية وتأثيرها عليك وعلى وعيك في سعة التجربة الإبداعية والعلمية والتي دفعتك إلى أن تكون بهذا المستوى الإبداعي وهذه الخبرة المنهجية الراسخة خصوصاً في مجال الدراسة والنقد إلى جانب الإبداع ؟
في البداية كانت هناك ظواهر عديدة في هذا الأدب لفتت انتباهي هي ظاهرة التجديد وارتباك هذا التجديد وقلقه في عوالم الكتابة للأطفال ، وما شاب ذلك من أوجه الصراع الحاصل بين الجديد والقديم من أدب للطفل ، وكذلك البحث عن رؤية فكرية وأسس علمية ومعايير نقدية واضحة ودقيقة يمكن أن ينطلق منها أدب الطفل في منطلقاته العصرية التي جرى فيها لترصين وجوده وهويته الفنية ، ومن ثمَّ الانطلاقة الواثقة لإيجاد أدب حقيقي وخلاق وواثق ومخلص للطفل العربي ، هذه بداية الرؤية والمنطلق الأول في هذا المسار ، كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، وقد تبع ذلك منطلق النظر والتعمّق في منتج حالتين ابداعيتين راسختين ، هما ظاهرتان بارزتان في أدب الطفل العربي خصوصاً على المستوى الشعري وريادتهما في هذا المجال ، تجربة سليمان العيسى وتجربة أحمد شوقي ، وما كنت قد لاحظته في هاتين التجربتين الرائدتين المهمتين من بعض الصعوبات والتعسّر في الكتابة للطفل ومخاطبته من ناحية اللغة والأسلوب ، ولدى دراسة التجربتين والبحث فيهما بتعمق وجدت أن الشاعر الكبير سليمان العيسى قد حسم أمره في ذلك عندما كشف بنفسه تلك المواقع في بعض كتاباته وقد برّرها تبريراً منطقياً وسلساً ليبقى هكذا " رحمه الله " إلى يومنا هذا قمة إبداعية شامخة في أدب الطفل العربي يقرأ أدبه الجميل والسلس ويتغنّى به الطفل العربي أينما كان حديثاً والآن وفي المستقبل حتماً ، غير أن ما كتبه أمير الشعراء في وقتها من أدب شعري للطفل ظلّ إلى يومنا هذا على حاله تكثر في مساحة من منتجه الكثير من المفردات والجمل الصعبة التي لا يستسيغها الطفل ولا يقرّها أدبه في أبرز سماته ، وهكذا ؛ من بعد ذلك ، انطلقت في الكتابة النقدية ، وفي الكتابة الفكرية والعلمية لأدرس وأبحث في كل ظاهرة وحالة ومعيارية توجد الأدب الحقيقي للطفل وترسّخ من قيمته وقيمه ومعاييره المتجددة والخلاقة .
لهذا نطلب من حضرتك أن توضح لنا وللقرّاء الكرام في أي مسار من جملة المسارات الإبداعية والعلمية التي تشتغل عليها ويهمك أكثر، فنحن نعرف شخصية المبدع الأستاذ فاضل الكعبي متعدد الاتجاهات والمسارات الإبداعية، فأنت أديب، شاعر، وقاص، وكاتب مسرحي، وروائي، تكتب للأطفال ولليافعين، وكذلك مفكر وناقد وباحث خبير متخصص بأدب الطفل وثقافته ولك منجز بارز في كل ذلك، حدثنا عن ذلك وعن أيها الأقرب إليك؟
حقيقة أنا أجد نفسي في كل تلك التوصيفات التي وصفتها ، وحسب الحالة التي تتطلّب مني الوجود والتواجد والحضور في الكتابة والقول والإدلاء والخطاب ، فأكون فيها ومنها كما يجب أن تكون وأكون ، هكذا أنا في الموهبة المتعددة الاتجاهات والقدرة ، فللشعر عندي سعته حين تحين حالته ، فأكون معه حينما يتطلب أمر الاستجابة له ويطلبني لجولة في عوالمه ، حالما يهبط عليَّ وحيه ويستفزّني وأستشعره ، لحظة يتلبّسني الهامه وهيامه ، وحينها أكون شاعراً ، وحينما تحاصرني عوالم القص لتستنهض مخيّلتي بهوس فكرة ما ، انهض معها لأستنطقها كما يجب السرد قصَّاً وروياً استحسنه في نفسي قبل أن استحسنه وأحسّنه وأجوّده على ورق الكتابة بهيئة القصة أو المسرحية أو رواية اليافعين ، كل ذلك عندي يمرُّ بمراحل متعددة في نفسي ، ومخيلتي ، وتفكيري حتى يأخذ مجاله الطبيعي إلى أديم الكتابة ومنطوق روحها وجمالها المشوّق والساحر؛ شكلاً ومحتوى ، وهكذا الحال مع الطبيعة الإبداعية مع تجنيسات الإبداع وحالاته الأخرى .
مع ذلك لابد من مجال إبداعي يكون الأقرب والأكثر هوساً في مخيلتك وفي تفكيرك بين كل ذلك ؟
لا أكتمك الأمر في ذلك ، فإنَّ أكثر المجالات هوساً من بين ذلك عندي هو مجال المقارنة والتجدد ، لكي لا أكرر ما سبق مني من كتابة ، واستنسخ ما مررت به من قبل ، هذا هو ديدن الإبداع ونبضه عندي باختصار شديد ، خصوصاً في مجال الفكر والتفكير بالبحث والنقد ، فهذا عالم آخر يحيطني من كل الاتجاهات ، ويستحوذ على المساحة الأكبر من رؤيتي وتفكيري وانشغالاتي ، كوني على الدوام لا أفكر إلا بما هو في فرادة هذا التفكير ومن صنعه الجديد ، إذ لا أريد أن أكون نسخة مكرَّرة من الآخرين ، فأكتب كما يكتبون ، وينقد كما ينقدون ، ولا تهمني المناصب والمسميات التي التي قد تخلق الوجاهة عند البعض وبنظر البعض لكنها لا تخلق المبدع .
وبمنظورك من هو المبدع الحقيقي وكيف تراه وترى نفسك في ذلك ؟.
أنظر إلى المبدع الحقيقي من خلال انجازه ، نعم المبدع الحقيقي يبان ويقرأ وينظر إليه بانجازه ومنجزه لا بمظهره ، المناصب الإدارية والمسميات المادية والاجتماعية ما هي إلا توصيفات يمكن أن يتصف بها أناس لا علاقة لهم بالإبداع لكن المبدع الحقيقي هو من يضيف لكل ذلك اضافة ابداعية تحسب له ويقدر من خلالها ، أما بالنسبة لي فيهمني التوصيف الإبداعي أكثر من أي توصيف في مملكة الكتابة والإبداع ، وهذا ما يجب أن يكون عليه المبدع الحقيقي وهو يسعى إلى ايجاد بصمته الإبداعية قبل أي بصمة أخرى ، لذلك يشغلني دائماً ويهمني أن أخلق الجديد والمبتكر قبل أي شيء آخر في عالم الكتابة والإبداع أما التفصيلات الأخرى فهي تأتي أو لا تأتي فهي لا أفكر فيها في أغلب الوقت ، إذ أن المبدع الحقيقي بما ينجزه من المنجز لا بما يظهر به هنا وهناك ، لذلك أحرص على أن يكون ما أنتجه في مجال البحث والدراسة ذات قيمة مهمة ليشكل بذلك إضافة تذكر لأدب الأطفال وثقافتهم في عالمنا العربي .
قبل مدة كنت قد أشرت في حوار مهم أجري معكم عن أدب الأطفال شاهدناه واستمعنا إليه في إحدى القنوات العربية، ومن بين ما ذكرته حضرتك في هذا الحوار هو موضوع (القصة العلاجية) التي اشتغلت عليها في عدة قصص كتبتها وأصدرتها، هل لك أن تحدثنا عن ذلك؟
نعم ، إنَّ من بين المسائل الأساسية والهامة التي أشتغل عليها في البحث وفي الإبداع هي المعالجة بكافة اتجاهاتها ومسمياتها ، وخصوصاً في الإبداع القصصي ، الذي حرصت في مساحة واسعة منه على أن يكون نص القصة نصاً علاجياً من الناحية النفسية والاجتماعية والحسية والسلوكية والتربوية ، فهو بذلك يستعرض أمام الطفل المشكلة ويعمل على ايجاد العلاج أو المعالجة لها ، وقد تعرضت لكثير من المشكلات والظواهر والعقد والحالات التي تواجه الطفل ، خصوصاً الطفل العربي ، داخل الأسرة ، أو في نطاق المحيط البيئي وعلى أكثر من صعيد في الحياة !.
نفهم من هذا كما أشرت حضرتك أن لأسلوب القصة العلاجية طريقته الخاصة التي تختلف عن الأسلوب التقليدي في كتابة القصة؟
بالتأكيد، لهذا لأسلوب القصة العلاجية طبيعته وطريقته الخاصة بالمعالجة التي لابد تقف خلفها في الكتابة والمعالجة خبرة نفسية ورؤية علمية وحياتية واضحة وتطلّع واثق وأكيد من الوصول إلى النتائج المرجوة إلى جانب المتطلبات الفنية الأخرى في الكتابة، والحمد لله حققت النتائج الجيدة في هذا المجال ، فقد تعرّضت لمشكلة فراق الوالدين عن بعض في مشكلة الطلاق ومعاناة الطفل في ذلك عبر قصة ( ماما .. بابا لِمَ لا نعيشُ في بيتٍ واحد؟)، وعالجت مشكلة التدخين وأثره على صحة الأطفال في قصة (وعد جدي)، وفي قصة ( أبي أمي .. توقّفا ) عالجت مشكلة المشاحنات التي تحدث بين الأب والأم وأثرها على الطفل ، وعالجت مشكلة الإدمان على الأجهزة الالكترونية وتأثيراتها الخطيرة من خلال قصة ( يوميات آيباد ) ، وعالجت حالة الفقد ومخلفاتها في قصة ( رسالة مريم ) ، وفي رواية اليافعين ( في بيتنا زهايمر ) تعرضت لهذا المرض الخطير بمعالجة أدبية واجتماعية وعلمية وطبية واضحة ، وغيرها من قصص أخرى تنحو منحى العلاج في أسلوب القصة والأدب والذي أثبت فاعليته الأكيدة على وجهته للطفل .
يرى المتابع لأدب الطفل في الوقت الحاضر، ضعف النقد أو غيابه عن أدب الأطفال في الوطن العربي، ترى ما هي أسباب ذلك؟
أؤيد ما ذهب إليه المتابع ، هذا أمر واقعي حقيقة ، فهناك ضعف أكيد في النقد يصل أحياناً إلى حد الغياب الكامل للنقد في أدب الطفل العربي ، هناك غياب لهذا النقد لأنه يختلف غاية الاختلاف عن النقد في أدب الكبار ، ناقد أدب الأطفال يختلف عن ناقد أدب الكبار ، إذ أن متطلبات ومعايير العملية النقدية لأدب الأطفال تتطلب العديد من المتطلبات والمعايير والمقاييس والأسس والمنطلقات التي يتطلب أن تكون في قدرة المتصدي لهذه العملية ، وهي عملية ليست باليسيرة من نواح متعددة فنية ولغوية ونفسية وتربوية وأدبية وغيرها ، وكثيراً ما نقرأ بعض الكتابات التي تقدم نفسها على أنها كتابات نقدية لأدب الأطفال ، وما هي إلا انطباعات وتحليلات كثيراً منها أن يقترب بعض الشيء من أدب الطفل ونقده ، لكنه في واقع الأمر لا يستجيب لحقيقة ما تتطلبه العملية النقدية في أدب الأطفال ، لهذا تجد الغياب الواضح للنقد الحقيقي عن أدب الأطفال ، أما الشح الذي نلاحظه الآن في أدب الأطفال ، فليس هنا من نقّاد متخصصين في أدب الأطفال إلا ما ندر لبعض الأسماء في هذا القطر العربي أو ذاك ، وفي كثير من الأحيان نقرأ هنا وهناك بعض كتابات متناثرة على أنها نقود لأدب الأطفال غير أنها تظل مجرد كتابات تقليدية لم تضيء المنطقة المخفية ولا المنزوية ولا حتى المعتمة من هذا الأدب ، ولهذا لا تشكّل شيئاً لأدب الأطفال كونها لم تحرّك الساكن أو تجلب الانتباه لهذا الأدب ، من هنا نجد الممارسة النقدية في أدب الطفل ليس بالأمر اليسير ، كونها تتطلب العديد من المتطلبات والقدرات والمعايير والضوابط التي لا تتوفر عند البعض ممن يحاول دخول هذا المعترك ، وقد سعيت في هذا الاتجاه لتأسيس قاعدة نقدية خاصة بأدب الأطفال حصراً ، عبر إيجاد معايير نقدية خاصة ومتخصصة بأدب الأطفال ، بعد دراسة مستفيضة ومعمّقة لعديد من التجارب الإبداعية المتميزة في أدب الطفل العربي والعالمي وقد خلصت من ذلك مجتهداً بدراسة هي تعتبر الأولى التي تؤسس وتنظّر لمعايير نقدية متخصصة بأدب الأطفال وذلك في كتابي الموسوم : ( أدب الأطفال في المعايير النقدية : دراسة في الأسس والقواعد الفنية والنقدية لفن الكتابة للأطفال ) والصادر بطبعته الأولى في الإمارات عام 2013 .
من خلال ما نجده في تجربتك الإبداعية والعلمية والفكرية من خبرة طويلة تكاد تقارب الخمسين عاماً في الكتابة، كيف تقيّم أدب الأطفال في الوطن العربي قديماً وحديثاً؟
نشأ أدب الأطفال قديماً على استحياء ولأهداف وأغراض خاصة ومحددة وسار متعرجاً نوعاً ما في طريقه إلى الطفل ، وقد شابته بعض الشوائب الواضحة في لغته وفي أساليبه وفي أفكاره ، وقد استعاب منه بعض كتبته ، مع أن هذه الحالة هي حالة عالمية كان قد مرّ بها أدب الطفل العالمي ، فكثير من كتّابه لم يكتبوا أسماءهم الصريحة وتواروا خلف أسماء مستعارة ، غير أنهم فيما بعد كتبوا بصريح الاسم وبثقة واضحة ، وهكذا الأمر مع أدب الطفل العربي الذي مرَّ بمراحل متعددة من النهوض والكبوات ، ورافقته الكثير من الشوائب التي نرى بعضها غير صحيحة وغير سليمة إلا أنه وضع لنا قواعد وأسس جعلت أدب الطفل الحديث يرتكز عليها لينطلق منها في التصحيح والتجديد وإيجاد الرؤى والمنطلقات الفنية والفكرية الصحيحة لأدب الطفل حتى وصل الأمر إلى أدب الطفل المعاصر الذي راح يؤسس قواعده ويبني بناه وأساليبه على رؤى عصرية ليثبت بذلك هويته الفنية الصحيحة كظاهرة أدبية لها وجودها البارز في الوطن العربي ، غير أن أدب الطفل العربي في وقتنا الحاضر يعاني الفوضى ، وعدم الركوز في كثير منه على مرتكزات فنية وأسلوبية وعلمية واضحة ، بعد أن دخل ميدانه عشرات الطارئين الذين استسهلوا عملية الكتابة للأطفال ولم يستشعروا بخطورة هذه الكتابة وحقيقة رسالتها الإنسانية والأدبية ، التي لا يدركها ويصل إلى حقيقتها الموضوعية والفنية إلا من خَبِرَ هذه الكتابة وأدرك عوالمها واستجاب لمتطلباتها وانطلق لغاياتها الأساسية لخلق وإيصال الأدب الجاد والحقيقي للطفل ، ولكن للأسف الشديد نلاحظ رقعة الفوضى وآثارها تزداد في كل يوم حدَّة وتتسع في مساحة أدب الطفل العربي ، حتى باتت هناك الكثير من الضبابية في النظر إلى هذه المساحة وتشخيص الصائب عن الخائب فيها .
ترى ما سبب هذه الفوضى بنظركم ، وكيف يمكن معالجتها ؟.
هناك أسباب عديدة لوجود هذه الفوضى واستفحالها في عالم أدب الطفل العربي ، وأول الأسباب غياب الرقابة الحقيقية على ما يكتب وينشر من أدب للطفل ، خصوصاً في ظل وجود وسائل الاتصال والنشر المفتوح أمام الجميع ، فنجد كل من يحمل ورقة وقلماً بات يكتب للطفل ، ويدعي انتسابه لأدب الطفل ، وقد وجد عشرات المواقع والصفحات الالكترونية التي تعلن عن نفسها كراعية لأدب الطفل فتنشر كل ما يصلها قصة أو قصيدة لا تحمل أدنى المواصفات الفنية للكتابة الصحيحة ، والأخطر في هذا الأمر أن بعض رعاة هذه الصفحات راح يُنظّر كيفما شاء في أدب الطفل ويضع نفسه مرجعاً فيه دون وجه حق ، وبات كل من نشر قصة أو قصتين أن يجعل من نفسه خبيراً في أدب الأطفال ويطالب الكتّاب بصوت عالٍ أن يكتب كذا وكذا ، وهناك من راح يقيم الورش الفنية والعلمية ويفتح الدورات في آليات الكتابة للأطفال وهو أو هي لم يصدر في المنتج سوى قصة أو ثلاث ولم تكن له من الخبرة أي حد معقول ، ومن الأسباب الأخرى غياب النقد الحقيقي عن أدب الأطفال ، وكذلك وجود النشر التجاري يعد من بين الأسباب التي ساعدت على اتساع مساحة الفوضى في عوالم أدب الطفل العربي ، إذ أن هناك العديد من دور النشر التي ترحب بالنشر المجاني لمن هبَّ ودبَّ في عوالم الكتابة ، فهي هنا تعتبر هذا النشر مكسباً لها ولا يهمها مدى استجابة هذا العمل أو ذاك للمعايير الفنية ولعناصر الجودة والحسن ، وليس من المهم أن يكون بهذا القدر والمهم أنه مقبول نوعاً ما ، أما المعالجة فالأمر فيها يطول ويطول وقد بحَّ صوتنا بالحديث عنها ، وقد كتبنا عنها وبحثنا في أسسها ومتطلباتها في أغلب كتبي ودراستي ، وتحدثت عن ذلك في أكثر من ملتقى ومؤتمر وندوة وحوار ، كان من بين ذلك ما بحثت فيه وكتبته في عشرات الدراسات والأبحاث الفكرية والنقدية التي نشرتها في عشرات المجلات العربية المحكّمة والفكرية والأدبية ، وكذلك في عشرات الكتب التي أصدرتها على اختلافها ، وفي المقدمة منها كتاب : ( المداخل التربوية ومرتكزات التجانس المعرفي في ثقافة الأطفال ) وكتاب ( العلم والخيال في أدب الأطفال ) وكتاب ( كيف نقرأ أدب الأطفال ) وكتاب ( سايكولوجية أدب الأطفال ) وكتاب ( المعايير النقدية في أدب الأطفال ) وكتاب ( أدب الأطفال بين الظاهر والمسكوت عنه ) وكتاب ( قراءات نقدية في أدب الأطفال ) وغيرها ، من كتب أخرى بنفس الاتجاه ، ومعظم هذا الكتب صدرت بطبعات متعددة بعضها تجاوز الطبعة الثالثة ولكن أغلب هؤلاء لا يقرأ ولا يتابع .
هناك سؤال يستحضرني الآن ويفرض نفسه هنا، من وجهة نظركم الخبيرة، ترى أين موقع النقد من الدراسات الفكرية في أدب الأطفال، وكذلك الدراسات الأكاديمية العليا للماجستير والدكتوراه في أدب الطفل في مختلف الجامعات العربية؟
المشكلة هنا تظل قائمة ، وإشكالاتها تتواصل في إثارة الجدل والنقاش ، ولكن مازال أمرها بلا حلول ، إذ نلاحظ للأسف الشديد أن أغلب هذه الدراسات تأتي استنساخاً لسابقاتها ولم تأت بجديد يذكر ، فالجديد منها يكرّر ما قاله السابق وهكذا ، أما الدراسات العليا على اختلافها وحصرها في مجال أدب الأطفال على وجه الخصوص ، في العديد من جامعاتنا العربية ، فهي الأخرى ، نادراً ما نجد فيها الجديد ، إذ يأتي الطالب فيها لينطلق من نفس الأسس التي بنيَ عليها السابقون دراساتهم ، مع اختلاف العنوان أحياناً ، وذلك لأن أغلب هؤلاء الطلبة لم يأت محصّناً بحصيلة ثقافية وعلمية واسعة عن أدب الأطفال إلا ما ندر ، فتأتي دراساتهم لتضاف إلى ما سبقها في التقليدية بناء وأسلوباً ، ولم نر فيها أيّ فتح لنقد جديد أو خلاصة خلاقة لدراسة ونقد أدب الطفل العربي ، والمشكل أن هناك من ينظر إلى البعض من أصحاب هذه الدراسات من منظوره الضيقة على أنهم خبراء في أدب الطفل ، وهم في حقيقة الأمر ، لم يتجاوزوا بعد حدود معرفتهم الدراسية المحددة بأغراضها الخاصة ، وهذا ما لمسناه وتحققنا منه في حقيقية الواقع لدى البعض ممن قدمنا لهم العون ووسعنا لهم الطريق في هذا الاتجاه من طلبة الدراسات العليا في أدب الأطفال .
في واقع أدب الطفل الحالي هناك ما يشبه التقليد أو بعض التكرار في بعض المنعكسات الموضوعية والفنية والثقافية لأدب الطفل العالمي في جوانب من منتج أدب الطفل العربي، كيف ترى هذا الأمر؟
هذا سؤال مهم وخطير في آن واحد ، ويحتمل إجابات متعددة الأوجه والاتجاهات لكنني سأنحو منها نحو الأقرب إلينا ، وهو ما نجده في كثير من منتجات أدب الطفل العربي الصادرة هنا وهناك ، والتي يأتي أغلبها تقليداً لما هو عليه أدب الطفل العالمي في هذا البلد أو ذاك ، بل وحدا بالبعض إلى التقليد حتى بالرسوم ، أنا هنا لا ألوم الكاتب أو الرسام العربي فحسب ، بل نسبة اللوم الأكبر تقع على الناشر الذي يطلب من الكاتب والرسام ذلك ، وفي ظنه أنه يتماهى أو يتجاوب مع الأدب العالمي في هذا ، وحتى الترجمة حين يترجم من أدب الطفل العالمي إلى العربي تجده يصور حتى تفاصيل بيئة المجتمع الأوربي وطبيعته الثقافية ، وفات هؤلاء أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة وطبيعته الخاصة التي تميّزه عن غيره من المجتمعات ، وما مجتمعنا العربي إلا واحد من هذه المجتمعات له خصوصيته الثقافية والقيمية والإنسانية وله إبداعه وأدبه الذي لا يقل بالأهمية والقيمة في كثير منه عن غيره من أدب الشعوب !.
ما سبب ذلك ودواعيه من وجهة نظركم المتخصصة؟
للأسف الشديد هناك من يعمل على تصغير أدبنا العربي وتكبير أدب الآخرين حتى من بعض كتّابنا ، وهذا الأمر باعتقادي لا يمت بصلة لا إبداعية ولا ثقافية لمجتمعنا ، فنجد هناك من يبهرهم المنتج الأجنبي ويسعون إلى تمجيده ولا يبهرهم المنجز الباهر في أدبنا ، وهنا تكمن عقدة البعض ونقص وعيهم ونظرتهم ، فأدب الطفل العالمي له ما له وعليه ما عليه ، مثلما لأدب طفلنا العربي له ما له وعليه ما عليه ، ولا يمكن ؛ وليس من الصحيح أن يقلّد هذا ذاك ويخرج كما هو يخرج ، اذن أين التميز والاختلاف ، فجمال التذوق ومتعته ودهشته تكمن في كثير من الحالات بالتمايز والاختلاف والمغايرة ، لذا أتمنى أن نحترم خصوصيتنا ومنتجنا وأدبنا ، خصوصا المتميز البارع والرائع منه وننظر له بهذا المنظور في المعطى وفي الصورة ، ولا نعطي للآخر أكثر مما يستحق فنمجد حتى العادي منه ونقدّمه على المبدع من منتجنا ، علينا أن لا نقلد ما يقوم به أدب الطفل العالمي وننقل صورة نقلاً أعمى إلى أدب طفلنا ، هناك مخاطر ومنزلقات لا عد لها في هذا الاتجاه ، لا أريد الإشارة أكثر من ذلك ، ويكفينا النظر إلى ما يسود أدب الطفل العالمي في بعض منتجاته اليوم ، وأبسطها التلميح والتصريح علانية وبين السطور إلى ما لا يتناسب وقيم طفلنا العربي ومعايير ثقافته ، ومن ذلك الترويج للمثلية والشذوذ والخروج من سلطة العائلة وردم الفوارق بين الذكر والأنثى وغيرها الكثير، مما لا يمكن قبوله في أدب الطفل العربي وثقافته ، مع أن هناك من يحاول أن يسرّب بعضه إلى طفلنا سواء بالترجمة أو بالكتابة التي تنشر بلا رقابة وبلا حساب وبلا وعي بما يجب الانتباه إليه وتدارك الوقوع فيه من منزلقات ومخاطر في مخاطبة الطفل خطاباً أدبياً وثقافياً محسوب الأثر والتأثير والنتائج في مخيلة وفي المنظومة القيمية للطفل العربي ، فهناك كم من التحديات القيمية والأخلاقية والسلوكية والثقافية والتربوية وحتى الفنية والأسلوبية فيها تجابه أدب الطفل العربي ورسالته الحاضرة البليغة وعلى القائمين على هذه الأدب والمؤدين رسالته الحرص والدقة والنباهة والاخلاص والتحدي لمجابهة هذه التحديات وإثبات قدرتهم وقدرة أدب الأطفال العربي على اثبات وجوده ومقدرته وإيصال رسالته أمام هذه التحديات الخطيرة في العصر التكنولوجي متعدد المسارب والاتجاهات والمخاطر .
في الوقت الحاضر نلاحظ العديد من التحديات التي يواجهها الطفل العربي وأدبه في الواقع التكنولوجي المعاصر، وما يشكّله ذلك من آثار وتأثيرات خطيرة لا عدَّ لها ولا حصر لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع وما تتركه من مؤثرات ونتائج على وعي الطفل وعلى عقله وثقافته وعلى وجود أدب الطفل بشكل عام، فهل تعتقد بنظركم أن لأدب الطفل العربي القدرة على المجابهة واثبات دوره المطلوب؟
كما أرى وأعتقد ، بكل تأكيد ، نعم ، بإمكان أدب الطفل العربي وكاتبه الحقيقي والمبدع والخلاق والأصيل ؛ إذا ما شحذ همّته وأخلص في تأدية واجبه المخلص تجاه رسالته ، وارتقى بأساليبه التعبيرية ، وأحسن إدارة أدواته الفنية في الكتابة ، وأجاد الاستخدام الأمثل لمفرداته في التصوير والتجسيد الأكثر أثراً وبلاغة ودلالة ومهارة وتأثيراً في قدرات المتلقي وتمكّن من جذبه من اشعاعات القيم المضادة في المواقع الالكترونية إلى إشعاعات القيم المؤثّرة الصحيحة في إشعاعات ما ينتجه أدب الطفل العربي الخلاق ، وهذا الأمر حقيقة لا يحدث ويحقّق مراده ويصل أدب الطفل إلى أهدافه من دون معونة وإسناد المجتمع له ، خصوصاً من الآباء والأمهات والمعلمين ومن المثقفين العاملين في المجتمع ومن بحكمهم من الوسطاء بين الطفل وأدبه ، فلكل هؤلاء الدور الفاعل في هذا الاتجاه ، عبر لفت انتباه الطفل إلى أهمية التوجّه إلى منتج أدبه الحقيقي وتنبيهه إلى ما في المواقع الإلكترونية من منزلقات ومخاطر لا عد له ولا حصر على منظومته الأخلاقية والثقافية والتربوية والسلوكية ، ومن دون هذا لا يمكن لأدب الطفل أن يرقى ويرتقي بمستويات وبقدراته وبأساليبه في الوصول إلى مبتغاه وتحقيق غاياته وأهدافه .
هناك من يرى أن كاتب الطفل العربي ابتعد نوعاً ما عن واقع بيئته وعن قضايا مجتمعه وأمته ومتطلبات حاجات الطفل فيها، كيف ترى الأمر في ذلك؟
نوعاً ما ، ليس الجميع بنفس المستوى وبنفس النظرة وبنفس التفاعل ، وبنفس القدرة على النظر إلى هذه القضايا والزوايا التي ينظر منها ويأخذ بها إلى التجسيد ، ففي هذا الجانب هناك نوعان أو أكثر من الكتّاب ، هناك من تفاعل مع قضايا بيئته وواقعه وواقع أمته تفاعلاً حيّاً وسار للتماهي معها واستنطاقها في أساليبه التعبيرية وفي منتجه الإبداعي ، لكن ما نلاحظه في منتج هؤلاء أنهم ساروا وانطلقوا للتعبير والتجسيد بأسلوبين مغايرين ، الأول أتى مباشراً تسوده النمطية واللغة التقريرية التي تتقدّم فيها الأساليب التعليمية والتربوية الجامدة على الأساليب الجمالية والفنية المشوقة ، والتي لا تثير الطفل وتستثير حواسه وذائقته في التلقي ، أما الثاني وهو بنسبة أقل من الأول وقد أتى بعضها مشحوناً بالرموز التاريخية والاجتماعية والتراثية والشعبية وبأساليب تهويلية وخيالية مغرقة بالتضخيم والدلالات التي يعتقدها عناصر مشوقه ومثيرة وفاته أن ذلك لا يستثير الطفل المتلقي وقد يخرجه عن عالمه وعوالمه الواقعية التي يتطلب الاستجابة لها ولحاجات الطفل فيها بطرق وأساليب تقرّب الطفل وتشدّه إليها ولا تصعّب أمامه طرق الفهم والاستيعاب ، هذا من جانب ، من جانب آخر هناك كم من الكتابات التي كتبت وحسبت على أدب الطفل العربي لكننا لو أمعنا النظر فيها لأيقنا أنها كتبت لمجتمعات أخرى غير مجتمع الطفل العربي ، وذلك لأن أصحاب هذه الكتابات تجاوز قضايا أمته وبيئته وراح يُسقط ما في المجتمعات الأخرى من قضايا في كتاباته ، متناسياً ما في بيئة الطفل العربي من قضايا أهم وأكثر فاعلية ، وكان الأجدر بهذه الكتابات أن تتعايش مع منتوج هذه البيئة وانعكاساتها على وعي الطفل ومدركاته ، ولكن مع هذا ، نلاحظ هناك وعي فني وإبداعي واضح لدى العديد من كتّاب الطفل في الوطن العربي تجسَّدت لديهم الرؤية الخلاقة في استلهام قضايا الأمة والتماهي معها بروح إبداعية رائعة ، ومع محدودية المساحة التي يتحرّك فيها هؤلاء الكتّاب إلا أنها مساحة واضحة في لفت انتباه الطفل العربي إلى جانب مهم من قضايا أمته كالقضية الفلسطينية التي تتواصل في الضمير لإثبات الوجود والحق المستلب وغير ذلك .
شاعت في السنوات الأخيرة ظاهرة باتت واضحة للمتابع الدقيق لواقع أدب الطفل العربي ومنتجه الإبداعي، تلك هي ظاهرة التقليد التي نرى فيها البعض من كتاب وأدباء الأطفال يعمدون إلى تقليد بعضهم للبعض الآخر عبر تكرار الأفكار والمواضيع والأساليب وغير ها ، ترى ما دواعي ذلك وأسبابه من وجهة نظركم ككاتب وأديب وناقد وباحث متابع ومختص؟
هذه مشكلة كبيرة تسود أدب الطفل العربي في الوقت الحاضر ، حتى صارت ظاهرة ملفتة للنظر بشكل فاضح ، وهذه الظاهرة موجودة باتساع كبير وتتسع مساحتها في كل يوم بشكل معيب وغريب ومثير للاستغراب والدهشة والريبة ، وهي ظاهرة خطيرة فيها الكثير من الشبهة ، وتعكس حالة معيبة على أدب الأطفال ، حيث بات التكرار فيها حتى بالعنوان ، وحدث معي هذا كثيراً إذ أجد بعد مدة من الزمن أشهر أو سنوات أن هناك عنوان قصة لفلان وفلانة مشابهة لعنوان قصة لي ، وقد فاتحت دار النشر بذلك وأحيانا الكاتب أو الكاتبة نفسها ولكن من دون جدوى ، وهذا الأمر حقيقة يعبر عن نضوب الموهبة والقدرة والخيال عند البعض ، ومحاولة البعض الآخر إلى سرقة عنوان أو فكرة أو حتى محتوى كاتب آخر ، الأمر هنا يحتاج إلى معالجة سريعة تتدخل فيها مؤسسات حفظ الملكية الفكرية ومراقبة ومحاسبة دور النشر التي تسمح بذلك ، وفيما سبق لي كنت قد أشرت إلى هذه القضية الخطيرة والحسّاسة خصوصاً في مسألة الشعر وما يحصل فيه من تكرار وتشابهه خطير لدى العديد من الشعر، وذلك في كتابي الموسوم : ( المداخل التربوية ومرتكزات التجانس المعرفي في ثقافة الأطفال ) الصادر بطبعته الأولى في بغداد عام 1999 وبطبعته الثانية في دمشق عام 2013 ، ولهذا نشدّد هنا وبإصرار على أهمية أن تكون هناك رقابة مشدَّدة جداً.
من وجهة نظركم المتخصصة بوصفكم مرجعاً في أدب الأطفال العربي، ترى ما هي حدود نظرتك إلى قضية الريادة في أدب الطفل العربي في الوقت الحاضر، هل هناك بلد عربي بعينه يمكن أن تعتبره رائداً في أدب الطفل الآن؟
لا يمكن الآن تحديد بلد معين دون آخر في هذا الاتجاه ، يمكن أن يصح هذا قديماً في الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي فنقول أن البلد هذا رائد في أدب الأطفال أما الآن فالأمر اختلف تماماً ، حتى توزّعت الريادة وسمات الرواد في أكثر من بلد عربي ، لكن الثابت في المنظور الفني والنقدي لأدب الطفل العربي أن هناك عمالقة في الكتابة للطفل وهم من رواد هذا الأدب بالدرجة الأولى في مصر وسوريا والعراق والأردن ولبنان والجزائر وفي بقية الدول العربية تبرز أسماء مبدعة هنا وهناك بسبب ما قدمته من منجز واضح في أدب الأطفال .
ما هي الاصدارات الأدبية والعلمية في النقد أو الشعر أو القصة والتي تراها مهمة في أدب الأطفال وثقافتهم حالياً، وتشكّل إثراء للمكتبة العربية سواء لك أو لغيرك؟
عديدة هي الإصدارات في هذا الاتجاه ، خصوصاً في مجال الابداع ، ولا أتحدث عن إصداراتي في هذا الجانب ، وأترك أمرها للنقاد الآخرين وللقرّاء ، والذين اعتمدوا اصداراتي العلمية والنقدية في الدراسات كمراجع في هذا المجال على المستوى العربي والدولي ، وغير هذا فالتقييم أتركه للآخرين ، أما إصدارات الآخرين من المبدعين الحقيقيين والمخلصين والتي لفتت نظري في الشعر والقصة فهي اصدارات مهمة للغاية يصعب حصر أسماء مبدعيها هنا وقد ذكرت أهم الأسماء المبدعة في شعر الأطفال العربي في دراسة مهمة لي ستصدر خلال وقت قريب بعنوان ( شعر الأطفال – أغنية الأطفال : التقارب وإشكالية التلقي ) وهي دراسة علمية فنية ونقدية تطبيقية مهمة تتناول أبرز التجارب الشعرية العربية في الوقت الحاضر ، ولي دراسة أخرى صدرت قبل سنوات في القاهرة في مجال القصة والشعر والمسرح وفي بعض الظواهر الأدبية في النقد على المستوى العربي تناولت بعض الأسماء في هذا الاتجاه في الجزء الأول من كتابي النقدي الموسوم ( قراءات نقدية في أدب الطفل ) الصادر في القاهرة عام 2020 وسأتناول أسماء قصصية وشعرية ومسرحية أخرى في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، أما على مستوى النقد للآخرين فالإصدارات في هذا المجال شحيحة ، وبعضها يأتي تكراراً لاستنتاجات سابقة لآخرين ، وبعضها الآخر تقليدياً في تناوله وفي طروحاته التي لا تخلو من محاباة ومجاملات على حساب الموضوعية والحقيقة ، وهناك اصدارات أخرى في غاية الدقة والأهمية والموضوعية لكنها تعدّ بأقل من الأصابع أمام كم من اصدارات أخرى لا إضافة ولا جديد فيها .